
وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية تقول المحللة السياسية الدكتورة بورجو أوزتشيليك؛ الباحثة الزميلة في برنامج أمن الشرق الأوسط في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن إن الهجوم الجوي الإسرائيلي فتح “صندوق الشرور” على مصراعيه في تصعيد سيعيد تشكيل الشرق الأوسط.
وقد تحدت العملية العسكرية الإسرائيلية التي حملت الاسم التوراتي “الأسد الصاعد” واستهدفت كبار قادة الحرس الثوري الإيراني والمنشآت النووية الإيرانية بقوة الافتراضات التي كانت قائمة بشأن قدرات الردع الإيرانية. وأسفرت الضربات الإسرائيلية الأولى على إيران عن مقتل عدد من كبار القادة العسكريين، يتقدمهم رئيس هيئة أركان القوات المسلحة وقائد الحرس الثوري.
وأطلقت إسرائيل حملة ضربات جوية غير مسبوقة على إيران في 13 يونيو، مؤكدة امتلاك معلومات استخباراتية تفيد بأن برنامجها النووي شارف “نقطة اللاعودة”. وترد إيران مذاك بإطلاق دفعات صواريخ ومسيّرات على الدولة العبرية. وترى أوزتشيليك الحاصلة على درجة الدكتوراه في السياسة والدراسات الدولية من جامعة كمبريدج البريطانية أن إسرائيل استخدمت مزيجا من عمليات الاستخبارات البشرية والإلكترونية والسيبرانية لكي تفرض حصارا على إيران وتقلص خياراتها العملية في بداية الحرب.
ورغم أن الضربات الانتقامية الإيرانية على إسرائيل ألحقت بالأخيرة أضرارا تكتيكية، لكن لا يبدو أنها ترقى إلى المستوى الذي هددت به إيران منذ فترة طويلة. فبالنسبة إلى دولة مثل إيران، أمضت سنوات في إقامة بنية عسكرية رادعة تستند إلى مبدأ الدفاع المتقدم عبر شبكات إقليمية بالوكالة وتهديدات صاروخية، يشير الرد المحدود إلى أحد أمرين: إما أن إيران تمارس ضبط نفس مدروس، أو أنها تعاني من محدودية قدراتها العسكرية مقارنة بالهيمنة الجوية الإسرائيلية والتصعيد الأميركي المحتمل في الخليج.
وفي ظل التقارير التي تتحدث عن رسائل إيرانية إلى واشنطن عبر قنوات خلفية غير مباشرة، تبدي فيها طهران رغبتها في الحوار، فإن السؤال المطروح هو هل أن إيران مستعدة لتقديم تنازلات جوهرية بشأن برنامجها النووي لوقف المزيد من الضربات الإسرائيلية ومنع التدخل الأميركي المباشر؟ والحقيقة أن المطالب الأميركية المبالغ فيها بالتفكيك الكامل لبرنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، يمكن أن تعرقل مساعي التوصل إلى اتفاق.
ويبدو أن طهران بالغت في تقدير مرونة الولايات المتحدة في المفاوضات السابقة، وقللت من شأن استعداد إسرائيل العسكري ورغبتها في المخاطرة. وحتى الساعات الأخيرة التي سبقت العملية في 13 يونيو، ظلت طهران ترى في الحشد العسكري الأميركي والتهديدات باستخدام القوة مجرد تكتيكات الضغط النفسي عليها في المفاوضات.
وأعلنت إسرائيل السبت أنها قتلت ثلاثة قياديين في الحرس الثوري الإيراني وقصفت موقعا نوويا في أصفهان للمرة الثانية منذ بدء الحرب التي دخلت يومها التاسع بين الدولة العبرية والجمهورية الإسلامية.
وفي ظل تمسّك طهران برفض التفاوض بشأن برنامجها النووي مع تواصل الضربات الإسرائيلية، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجمعة أن مهلة “أسبوعين” التي حددها الخميس ليقرر ما إذا كان سيوجه ضربة لإيران هي “حد أقصى”، وأنه قد يتخذ قراره قبل انتهائها. وقال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إن الضربات التي طالت خصوصا منشآت عسكرية ونووية، أخرت “لسنتين أو ثلاث سنوات” برنامج إيران النووي.
وأعلن الجيش الإسرائيلي في بيان السبت أنه “قضى” على القيادي في فيلق القدس التابع للحرس الثوري سعيد إيزادي، قائلا إنه كان “حلقة الوصل” بين إيران وحركة المقاومة الإسلامية (حماس). وأوضح أنه استهدِف “داخل شقة اختباء سرية” في منطقة قم جنوب طهران.
ويتبع فيلق القدس للحرس الثوري وهو معني بالعمليات الخارجية خصوصا دعم المجموعات الحليفة لإيران والمناهضة لإسرائيل في الشرق الأوسط مثل حزب الله اللبناني وحماس الفلسطينية. وفور وقوع الهجوم العسكري الإسرائيلي على طهران، أصدرت دول المنطقة إدانات واضحة له، وحشدت جهودها لتمهيد الطريق لخفض التصعيد ووقف إطلاق النار في أقرب وقت.
وأفادت تقارير أن طهران تحركت لدعوة دول عربية معينة لحث إدارة ترامب على إجبار إسرائيل على قبول وقف إطلاق نار فوري. وحذر وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة، الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، من اتخاذ “خطوات غير محسوبة ومتهورة” في حال التصعيد.
وفي محاولة من جانبه للوساطة من أجل إنهاء الحرب، أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتصالات مع نظيريه الأميركي دونالد ترامب والإيراني مسعود بزشكيان. كما أجرى وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي اتصالات منفصلة مع المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في مسعى مصري لوقف إطلاق النار.
وسبق نشوب الحرب زيارة عراقجي إلى القاهرة يوم 2 يونيو، فيما اعتبر محاولة لتطبيع العلاقات بين البلدين، وهي الخطوة التي كانت ستكون أقل وضوحا لولا تغير ديناميكيات العلاقات الإقليمية منذ هجمات 7 أكتوبر 2023 الفلسطينية على القواعد والمستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة والتي أدت إلى شن إسرائيل حربا ساحقة ضد القطاع أسفرت عن مقتل أكثر من 55 ألف فلسطيني وفقا للتقديرات الفلسطينية.
وخلال السنوات الأخيرة سعت دول الخليج إلى جانب القوى الرئيسية في الشرق الأوسط إلى تعزيز حضورها الإقليمي والدولي كوسطاء في تسوية الصراعات. فمصر وقطر تقودان الوساطة بين حركة حماس الفلسطينية وإسرائيل منذ هجمات 7 أكتوبر، كما استضافت تركيا والسعودية محادثات لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا. ورغم ذلك لم تسفر تلك الجهود عن نتائج كبيرة في الحالتين.
ولم يكن فشل الوساطة نتيجة عدم افتقاد الوسطاء للبراعة الدبلوماسية أو الالتزام ببذل كل ما يلزم من جهد. لكن بمجرد أن تدخل الصراعات مرحلة التصعيد المستمر، يكون من الصعب تغيير اتجاهه في وقت قصير.
وتقول أوزتشيليك التي عملت كمدير مشارك في إحدى شركات الاستشارات بلندن أن الاختراق العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي في بداية العملية العسكرية نجح في الكشف عن نقاط ضعف إيران، وتقليص مخزوناتها من الذخائر، وقصف مواقعها العسكرية والنووية الإستراتيجية، وبالتالي أصبح من الصعب إيجاد حل دبلوماسي يمكن للإسرائيليين القبول به. ومن الواضح أن أيّ ضغط إقليمي على إيران للتراجع عن “خطها الأحمر” فيما يتصل بتخصيب اليورانيوم قد أدى إلى نتائج عكسية.
وذكرت بعض التقارير أن الوسطاء العرب لم يروا أيّ مؤشر على استعداد إيران لتقديم تنازلات جديدة في المحادثات النووية. ورغم أن طهران كانت تنوي على الأرجح الحفاظ على قوتها التفاوضية، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل كانتا ستعتبران ذلك رفضا قاطعا للمفاوضات.
وفي كل الأحوال فإن القوى الإقليمية في الشرق الأوسط تشعر بقلق من أن يكون أيّ انتصار إسرائيلي في حربها ضد إيران على حساب الاستقرار في المنطقة، لذلك فإن الوصول إلى حل تفاوضي بشأن البرنامج النووي الإيراني يظل الخيار الأفضل من أجل استقرار المنطقة.