روكب اليوم
2025-06-23 11:36:00

ترامب والاتحاد الأوروبي
تدخل أوروبا منعطفاً حساساً في علاقتها مع التكنولوجيا الأميركية، بعدما تكرّست مؤشرات متزايدة على استخدام واشنطن لتفوقها الرقمي كأداة ضغط سياسي حتى على أقرب حلفائها.
ومع تصاعد النفوذ الذي باتت تمارسه شركات التكنولوجيا العملاقة لم يعد الأمر يقتصر على الهيمنة الاقتصادية أو الابتكار التقني، بل تجاوز ذلك إلى مستويات تمس السيادة الرقمية للدول الأوروبية وتُقوّض استقلال قرارها الرقمي.
وفي ظل اعتماد القارة العجوز على البنية التحتية الرقمية الأميركية، من خدمات الحوسبة السحابية إلى الذكاء الاصطناعي ومعالجة البيانات، يتنامى القلق الأوروبي من هشاشة موقعه في معادلة القوة التكنولوجية العالمية. وتزداد هذه المخاوف مع بروز مؤشرات على إمكانية توظيف هذا النفوذ الرقمي كورقة جيوسياسية، بما يهدد قدرة الحكومات الأوروبية على التحكم الكامل في بياناتها وسياساتها التقنية.
أمام هذا الواقع، تسعى أوروبا اليوم إلى إعادة ضبط توازنها الرقمي عبر مشاريع استراتيجية وتشريعات صارمة، تتوخى تقليص التبعية وتعزيز الابتكار المحلي، في محاولة لصياغة مستقبل تكنولوجي أكثر استقلالًا واستدامةً، يحمي القارة من الوقوع رهينة لقرارات خارجية لا تصنعها، لكنها قد تدفع أثمانها.
واقعية مثيرة
في هذا السياق، يشير تقرير لـ “نيويورك تايمز” إلى أنه عندما أصدر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمرا تنفيذيا في فبراير ضد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق مع إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجدت شركة مايكروسوفت نفسها فجأة في خضم معركة جيوسياسية.
لسنوات، زوّدت مايكروسوفت المحكمة – التي يقع مقرها في لاهاي بهولندا، وتُجري تحقيقاتٍ وتُحاكم انتهاكات حقوق الإنسان والإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم ذات الاهتمام الدولي – بخدماتٍ رقميةٍ مثل البريد الإلكتروني. لكن أمر ترامب زعزع هذه العلاقة فجأةً بمنع الشركات الأميركية من تقديم خدماتٍ للمدعي العام، كريم خان.
وبعد فترة وجيزة، ساعدت شركة مايكروسوفت، التي يقع مقرها في ريدموند بولاية واشنطن، في إيقاف حساب البريد الإلكتروني الخاص بخان لدى المحكمة الجنائية الدولية، مما أدى إلى تجميد اتصالاته مع زملائه بعد بضعة أشهر فقط من إصدار المحكمة مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بسبب تصرفات بلاده في غزة.
صدم امتثال مايكروسوفت السريع لأمر ترامب، صانعي السياسات في جميع أنحاء أوروبا. وقد كان بمثابة جرس إنذار لمشكلة أكبر بكثير من مجرد حساب بريد إلكتروني واحد، مما أثار مخاوف من أن إدارة ترامب ستستغل هيمنة أميركا التكنولوجية لمعاقبة المعارضين، حتى في الدول الحليفة مثل هولندا.
أوروبا وأميركا.. مفاوضات لرسم ملامح مستقبل العلاقات التجارية
مخاوف
وقال براد سميث، رئيس مايكروسوفت، إن المخاوف التي أثارتها قضية المحكمة الجنائية الدولية تُعدّ “مؤشرًا” على تآكل أكبر في الثقة بين الولايات المتحدة وأوروبا. وأضاف: “لقد صبّت قضية المحكمة الجنائية الدولية الزيت على نار مشتعلة بالفعل”.
وقال كاسبر كلينج، وهو دبلوماسي سابق في الدنمارك والاتحاد الأوروبي عمل في شركة مايكروسوفت، إن هذه الحلقة كانت في كثير من النواحي “الدليل القاطع الذي كان العديد من الأوروبيين يبحثون عنه”، مضيفاً أنه “إذا استهدفت الإدارة الأمريكية منظمات أو دولًا أو أفرادًا معينين، فإن الخوف يكمن في إلزام الشركات الأميركية بالامتثال”. وأضاف: “لقد كان لذلك تأثير عميق”.
ويُفاقم الجدل حول التكنولوجيا التوتر المتزايد في العلاقات الأميركية الأوروبية بشأن التجارة والرسوم الجمركية والحرب في أوكرانيا. وقد انتقد ترامب ونائبه جيه دي فانس كيفية تنظيم أوروبا لشركات التكنولوجيا الأميركية، وجعل المسؤولون الأميركيون الرقابة الرقمية والضرائب جزءًا من مفاوضات التجارة الجارية.
وزعم المنظمون الأوروبيون أنهم بحاجة إلى أن يكونوا قادرين على مراقبة أكبر المنصات الرقمية في بلدانهم دون القلق من أنهم سيواجهون ضغوطا سياسية وعقوبات من حكومة أجنبية.
هيمنة أميركية
من جانبه، يقول المستشار الأكاديمي في جامعة “سان خوسيه” الحكومية في كاليفورنيا، أحمد بانافع لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- تتزايد المخاوف الأوروبية من هيمنة التكنولوجيا الأميركية بعد سلسلة حوادث كشفت عن حجم النفوذ الأميركي على البنية التحتية الرقمية في أوروبا، وأبرزها تعليق البريد الإلكتروني للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بناء على طلب أميركي.
- هذه الحادثة وغيرها عمّقت القلق الأوروبي من استخدام الولايات المتحدة لتفوقها التكنولوجي كسلاح جيوسياسي، يتجاوز الجانب الاقتصادي.
- تعتمد أوروبا بشكل كبير على خدمات الحوسبة السحابية التي تسيطر عليها شركات أميركية مثل مايكروسوفت وغوغل، مما يعرض بياناتها الحساسة لتدخلات محتملة من الحكومة الأميركية بموجب قوانينها.
- كما تهيمن شركات التكنولوجيا الأميركية على مجالات الابتكار والذكاء الاصطناعي وجمع البيانات، مما يعزز قدرتها على التأثير في الأسواق والسياسات الأوروبية.
ويضيف: “تتمحور المخاوف الأوروبية حول فقدان السيادة الرقمية وتزايد المخاطر السيبرانية وضعف تنافسية الشركات الأوروبية أمام عمالقة التكنولوجيا الأميركية، وخطورة توظيف التكنولوجيا في الضغط السياسي”.
وردًا على ذلك، بدأت أوروبا في تطوير استراتيجيات بديلة لتعزيز استقلالها الرقمي، مثل الاستثمار في بنية تحتية سحابية خاصة، ودعم الشركات المحلية، وتطوير بدائل للتقنيات الأميركية. كما أقرت تشريعات مهمة مثل قانون الأسواق الرقمية (DMA)، وقانون الخدمات الرقمية (DSA)، إلى جانب تعزيز لائحة حماية البيانات (GDPR).
ويضيف بانافع: تسعى أوروبا أيضًا إلى تعزيز البحث والتطوير، خاصة في الذكاء الاصطناعي الآمن، وزيادة الإنفاق على الابتكار.. وضمن خططها، تعزز التعاون بين الدول الأوروبية في مشاريع استراتيجية، وتعمل على بناء دفاع سيبراني موحد، وتعديل بيئة الأعمال لتشجيع الريادة والمخاطرة”، منبهاً إلى أن أوروبا بشكل عام تتبنى مساراً طويل الأمد؛ لتحقيق “السيادة الرقمية” وتقليل التبعية للولايات المتحدة في قطاع التكنولوجيا.
خطة أوروبية
وفي هذا السياق، أطلقت المفوضية الأوروبية خطة تهدف إلى جعل أوروبا مكاناً أفضل لرعاية شركات التكنولوجيا العالمية، وتوفير الدعم طوال دورة حياتها، من مرحلة بدء التشغيل حتى مرحلة النضج.
تم إطلاق استراتيجية الاتحاد الأوروبي للشركات الناشئة والتوسع نهاية الشهر الماضي، والتي أطلق عليها اسم “اختر أوروبا للبدء والتوسع”، وهي محاولة أخرى لتنمية قطاع التكنولوجيا المزدهر في المنطقة لمنافسة القطاع في الولايات المتحدة، أو “جعل أوروبا قوة ناشئة”، كما تصفها المفوضية الأوروبية.
وتقول المفوضية الأوروبية إن العديد من الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الأوروبية تكافح في الوقت الحالي من أجل نقل أفكارها من المختبر إلى السوق، أو النمو لتصبح لاعبين رئيسيين في أسواقها، وتقترح المفوضية اتخاذ إجراءات عبر خمسة مجالات رئيسية.
بحسب تقرير لـ theregister، تشمل هذه المبادرات إنشاء بيئة أكثر ملاءمة للابتكار مع أعباء إدارية أقل في جميع أنحاء السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، وصندوق Scaleup Europe للمساعدة في سد فجوة التمويل؛ ومبادرة Lab to Unicorn للمساعدة في ربط الجامعات في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي؛ وجذب والاحتفاظ بالمواهب المتميزة من خلال تقديم المشورة بشأن خيارات الأسهم للموظفين والتوظيف عبر الحدود؛ فضلاً عن تسهيل الوصول إلى البنية التحتية للشركات الناشئة.
سلاح جيوسياسي
يشير أستاذ علم الحاسوب وخبير الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في السيليكون فالي كاليفورنيا، الدكتور حسين العمري لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن ثمة مخاوف أوروبية واسعة المدى لجهة توظيف الولايات المتحدة، في عهد الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، هيمنتها التكنولوجية كسلاح جيوسياسي في مواجهة الحلفاء قبل الخصوم؛ فشركات التكنولوجيا الكبرى مثل مايكروسوفت وغوغل وميتا، وإنفيديا، تشكّل اليوم بنية تحتية رقمية حيوية تعتمد عليها الحكومات الأوروبية في الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والسحابة الإلكترونية، وحتى في قطاع التعليم والبحث العلمي.
هذه التبعية تمنح واشنطن أوراق ضغط ناعمة لكنها فعالة، خاصة في أوقات الخلافات حول الملفات الاقتصادية، أو الدفاعية، أو السياسات العالمية تجاه الصين وروسيا.
ويتابع: من الأمثلة المقلقة للأوروبيين ما تفعله واشنطن في فرض قيود تصدير الشرائح والبرمجيات المتقدمة أو في استخدام لوائح الخصوصية والامتثال الأمني كأدوات نفوذ اقتصادي. حتى في مبادرات تنظيم الذكاء الاصطناعي، بدا أن الأوروبيين يتخذون موقفًا أكثر استقلالًا، لكنهم في الواقع لا يملكون حتى الآن بدائل فعلية للعتاد والبرمجيات الأميركية.
أما لجهة السيناريوهات البديلة التي يلوّح بها القادة الأوروبيون فتدور في فلك “الاستقلال الرقمي الاستراتيجي”، وتتضمّن:
- تعزيز الابتكار المحلي عبر دعم شركات ناشئة أوروبية في مجالات الحوسبة والذكاء الاصطناعي، مثلما تفعل فرنسا وألمانيا مع شركاتها السحابية البديلة.
- تطوير بنى تحتية أوروبية مستقلة كإنشاء مراكز بيانات محلية وشبكات سحابية أوروبية (مثل مشروع Gaia-X تقلّل الاعتماد على مزودي الخدمات الأميركيين.
- تعميق التعاون مع القوى التقنية الآسيوية: مثل كوريا الجنوبية واليابان، لتخفيف الأحادية الأميركية في التقنيات المتقدمة.
- تبني سياسات تنظيمية مشتركة داخل الاتحاد الأوروبي لضبط عمل شركات التكنولوجيا العابرة للحدود وحماية السيادة الرقمية الأوروبية.
لكن -وفق العمري- تبقى التحديات كبيرة؛ فالفجوة التقنية مع الولايات المتحدة ما زالت واسعة، والمشاريع البديلة تحتاج إلى سنوات من الاستثمار والتكامل كي تصبح فعالة. لذلك، فإن أوروبا تجد نفسها اليوم في موقف حرج: بين إدراكها لضرورة التحرر من التبعية الرقمية، وبين صعوبة تحقيق ذلك في المدى القريب.
ويستطرد:
- في ظل تسارع وتيرة التحول الرقمي العالمي، لم تعد السيطرة على التكنولوجيا مجرد تفوق صناعي أو اقتصادي، بل أصبحت أداة سيادية تحدد موازين القوة بين الدول.
- إن ما يواجهه القادة الأوروبيون اليوم ليس مجرد تحدٍّ تقني، بل اختبار تاريخي لقدرتهم على صياغة مشروع حضاري رقمي مستقل، يحمي مصالح القارة ويعزز صوتها في النظام الدولي متعدد الأقطاب.
- إن ترك الساحة للهيمنة الأميركية دون خيارات بديلة لن يؤدي فقط إلى إضعاف الموقف الأوروبي، بل سيجعل من الاتحاد رهينة في معارك لا يصنعها، لكنه يُجبر على دفع أثمانها.
- لهذا فإن الرهان الحقيقي لا يجب أن يكون فقط على الابتكار أو التشريع، بل على الإرادة السياسية الأوروبية في توحيد الجهود وتحمّل كلفة الاستقلال الرقمي في سبيل ضمان مستقبل رقمي سيادي ومستدام.
بعد الصين.. أوروبا الهدف الثاني لحرب ترامب التجارية