
روكب اليوم
يعرف الجيولوجيون “العمود الماغماتي” بأنه تيار صاعد من الصخور المنصهرة جزئيا (أو الساخنة جدا) ينطلق من أعماق الأرض، وغالبا من الحدود الفاصلة بين طبقتي اللب والوشاح الأرضيتين، ويتجه نحو السطح.
وعادة ما تكون هذه الصخور أخف وزنا من الصخور المحيطة بها، مما يدفعها إلى الارتفاع ببطء، تماما كما تصعد فقاعة من الحليب الساخن في قدر على النار.
وإذا كان من السهل رصد هذا النوع من الأعمدة بفضل آثاره الظاهرة، مثل إطلاق الحمم وتشكيل البراكين، فإن فريقا دوليا من العلماء كان على موعد مع اكتشاف فريد من نوعه في سلطنة عُمان، وتحت هضبة سلمى (في الجزء الشرقي من البلاد) أطلقوا عليه وصف “العمود الشبحي”.
وفي الدراسة المنشورة في دورية” إيرث آند بلانيتري ساينس ليترز” أوضح الباحثون أن هذا النوع غير النمطي من “أعمدة الماغما” لا يُطلق حمما ولا يُحدث براكين، لكنه ذو تأثير بالغ، إذ لعب دورا حاسما قبل نحو 40 مليون سنة في تغيير مسار الصفيحة الهندية أثناء تصادمها مع الصفيحة الأوراسية، وهو ما ساهم في إعادة تشكيل ملامح القارات.
أول دليل عملي
ويقول الدكتور عبد العزيز محمد عبد العزيز أستاذ هندسة الاستكشاف وتقييم الطبقات جامعة القاهرة (غير مشارك بالدراسة) للجزيرة نت “نظريا، كنا نفترض وجود هذا النوع من أعمدة الماغما، التي وصفها الباحثون في دراستهم بالأعمدة الشبحية، استنادا إلى ظهور براكين في أماكن غير تقليدية”.
ويستطرد قائلا “لكن ما يميز الاكتشاف في سلطنة عُمان أنه أول دليل مباشر على وجود عمود وشاح نشط لا يصاحبه نشاط بركاني، وهو ما حول الفرضية إلى واقع مدعوم بالبيانات الزلزالية والتحليل الجيوفيزيائي”.
وأضاف “هذا النوع من الاكتشافات يفتح آفاقا جديدة لفهم ديناميكيات باطن الأرض، خصوصا في المناطق القارية التي طالما افترضنا أنها تخلو من أعمدة الوشاح بسبب سماكة قشرتها، والتي تعيق صعود الماغما، فالعمود المكتشف تحت هضبة سلمى، من خلال تأثيره القديم في انحراف حركة الصفيحة الهندية، يبرهن على أن هذه الأعمدة قد تكون صامتة بركانيا لكنها نشطة تكتونيا”.
البداية من تضاريس غير مألوفة
بدأت قصة الاكتشاف، كما يرويه الدكتور سيمون بيليا الجيوفيزيائي بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن في السعودية، من ملاحظة طبوغرافية بسيطة، وهي أن هضبة سلمى ترتفع قليلا عن محيطها الجيولوجي، دون أي مؤشرات لنشاط بركاني ظاهر، وهو ما أثار الشكوك.
ويقول بيليا في تصريحات لموقع “لايف ساينس”: إن العمود الماغماتي مادة ساخنة “وعندما يكون تحت السطح، تدفع لأعلى وتخلف تضاريس، والارتفاع عند هضبة سلمى طفيف، لكنه موجود، وهذا يخبرنا أن العمود نشط بالفعل”.
ولتحليل ذلك، اعتمد الفريق على شبكة رصد زلزالي كثيفة تغطي سلطنة عمان، وهي من بين الأفضل في المنطقة. وبفضل الموجات الزلزالية التي تسلك مسارات وسرعات مختلفة بحسب تركيبة الصخور، رسم الباحثون خريطة لما تحت سطح الأرض، كشفت عن وجود منطقة عميقة ساخنة ومنخفضة الكثافة، تُشبه العمود الماغماتي لكن بدون أي نشاط بركاني مصاحب.
ويقول الدكتور بيليا “في العادة، أعمدة الماغما تشعل البراكين لأنها تنصهر أثناء صعودها عبر القشرة. لكن في القارات، القشرة أكثر سماكة، مما يمنعها من بلوغ السطح، لذلك افترض كثيرون غيابها لكن غياب البركان لا يعني غياب العمود”.
وبعد تحديد موقع هذا “العمود الصامت” بدأ الفريق في تتبع أثره القديم على الصفائح التكتونية. وبالعودة إلى البيانات الحركية للصفائح، أعاد العلماء بناء مسار الصفيحة الهندية أثناء تصادمها مع أوراسيا قبل 40 مليون سنة، ووجدوا أن مسار التصادم تغير طفيفا باتجاهه، في فترة تتزامن مع وجود العمود.
إجهاد خفي وأثر هائل
ومن خلال نماذج رياضية متقدمة، توصل بيليا وفريقه إلى أن “العمود الشبحي” قد أنتج ما يُسمى “الإجهاد القصي” وهو نوع من القوى الداخلية التي تدفع الصخور بشكل مائل، مما يؤدي إلى انزلاقها أو تحركها جانبيا.
ويشرح بيليا “مثلما تدفع غطاء صندوق من طرفه بينما قاعدته ثابتة، فإن الصخور في باطن الأرض تنزلق بفعل هذا الضغط الجانبي، وهو ما يكفي لتغيير اتجاه الصفائح التكتونية بأكملها”.
وكان هذا الضغط كافيا لتغيير زاوية حركة الصفيحة الهندية خلال تصادمها مع أوراسيا، مما يجعل من هذا العمود الصامت على السطح فاعلا خفيا أعاد تشكيل خريطة القارات كما نعرفها اليوم.
المزيد من الأشباح الجيولوجية
يفتح هذا الاكتشاف آفاقا واسعة أمام الباحثين لإعادة النظر في المناطق القارية التي لطالما اعتبرت “صامتة” من الناحية البركانية.
ويشير بيليا إلى أن أفريقيا تمثل مرشحا قويا لاحتضان أعمدة شبحية أخرى، نظرا لأنها تقع فوق إحدى “مناطق السرعة المنخفضة” الضخمة وهي عميقة جدا في باطن الأرض، وتحديدا عند الحدود بين اللب والوشاح (على عمق نحو 2900 كيلومتر) حيث تسير الموجات الزلزالية فيها بسرعة أقل من المعتاد، ويُعتقد أنها تغذي أعمدة ماغماتية عملاقة.
ويضيف “إذا كنا قد اكتشفنا هذا العمود في سلطنة عمان بفضل شبكة زلزالية كثيفة، فهناك احتمال كبير لوجود أعمدة مماثلة في أماكن أخرى لم تُرصد بعد، ببساطة لأننا لا نمتلك بيانات كافية”.
وبينما يواصل العلماء تطوير أدوات الرصد الزلزالي والنمذجة ثلاثية الأبعاد، من المرجح أن تزداد اكتشافات ما يُسمى “الأعمدة الشبحية” مما قد يحدث تحولا جذريا في فهمنا لديناميكيات باطن الأرض، ولشكل القارات الذي نظنه ثابتا، لكنه لا يزال يستجيب لقوى شبحية تعمل في صمت تحت أقدامنا.