Site icon روكب اليوم

فيلسوف تنبأ بالصراع الحالي بين واشنطن وبكين ويتنبأ بمستقبل أميركا |

37586859 1744311020

روكب اليوم

مقدمة المترجم

في هذا المقال المنشور بمجلة “فورين أفيرز”، يُنقاش بِن ستايل، الاقتصادي والكاتب الأميركي، ومدير قسم الاقتصاديات الدولية في مجلس العلاقات الخارجية بالولايات المتحدة، أفول أطروحة فوكوياما عن نهاية التاريخ وانجذاب قوى العالم نحو الليبرالية عاجلا أم آجلا.

ويُعيد ستايل إحياء أفكار المفكر الألماني كارل شميت عن التاريخ وقصور الليبرالية، وكيف أنها تُفسِّر ظاهرة مُعاكسة تماما لتوقُّعات فوكوياما القديمة نعيشها منذ عشر سنوات، وهي ليس فقط بقاء الدول “غير الديمقراطية” على حالها رغم انفتاحها الاقتصادي (مثل الصين)، بل وانجذاب الديمقراطيات الليبرالية ذاتها للأفكار اللاليبرالية، بسبب شعورها بالتهديد من الصعود الاقتصادي الصيني، ومن ثمَّ يبدو أن مسار التاريخ الراهن قد سلك ما يُسميه ستايل “مسار فوكوياما بالمقلوب”، كما يشرح بالتفصيل في هذا المقال .

اقرأ أيضا

list of 2 itemsend of list

نص الترجمة

في كتابه الشهير والمؤثر الصادر عام 1992 بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، قال أستاذ السياسة المعروف فرانسيس فوكوياما إن “التاريخ” كما فهمه الفيلسوفان الألمانيان هيغل وماركس، أي تطوُّر المجتمعات البشرية، قد بلغ نهايته.

فالديمقراطية الليبرالية والرأسمالية القائمة على السوق الحُرَّة تمثلان النقطة الختامية لآلاف السنين من التطور والتحول الأيديولوجي، حتى لو لم تتبنَّاهما كل دول العالم.

وقد وصف فوكوياما الولايات المتحدة بأنها دولة “ما بعد تاريخية”، مُفترِضا أنها أنهت منذ تطورها السياسي زمنا بعيدا، وأنها الآن تنتظر الصين ودولا أخرى كي تتراجع عن الطريق التاريخي المسدود للسلطوية المُتَّبعة فيها.

المنظر السياسي الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما (رويترز)

كان انتشار هذه الفلسفة في صفوف النخبة الفكرية والسياسية والاقتصادية الأميركية لافتا للنظر آنذاك. فقد صارت القناعة بأن الإنترنت والتجارة الحرة سيجذبان الدول المُتخلِّفة نحو الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية أمرا شائعا.

ففي مارس/آذار عام 2000، صرَّح الرئيس الأميركي بيل كلينتون بأن الصين “عبر انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية لا توافق ببساطة على استيراد مزيد من منتجاتنا فحسب، بل توافق على استيراد إحدى أكثر القيم المُثمَّنة في الديمقراطية، وهي الحرية الاقتصادية. فكلما حرَّرت الصين اقتصادها أكثر، زاد انفتاحها على إطلاق إمكانات شعبها بالكامل”.

لكن ما حدث هو العكس. فمنذ انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، شهد اقتصادها نموا بنسبة 1400% في ظل نظام رأسمالية الدولة ذات الحزب الواحد.

ومنذ عام 2010، أضحَت الصين أكبر مُصدِّر في العالم بينما تواصل انتهاكها المنهجي للمبادئ الأساسية لمنظمة التجارة العالمية، إذ تقوم الحكومة الصينية بسرقة الابتكارات ذات حقوق الملكية الفكرية عبر العمليات الإلكترونية وتجنيد العناصر الاستخبارية البشرية، كما أنها تُجبِر الشركات الأجنبية العاملة في الصين على مشاركة تقنياتها مع الشركات المحلية. وتنفق الصين أيضا عشرة أمثال ما تنفقه الولايات المتحدة على دعم الشركات المحلية.

ومنذ عام 2012، عندما أصبح شي جين بينغ زعيم البلاد، أصبحت السياسة الداخلية الصينية أقل ليبرالية بشكل ملحوظ، واستغلت السلطات زيادة الترابط والتكنولوجيا المتقدمة في جهود متنامية باستمرار لمراقبة المواطنين والسيطرة عليهم.

لو كان تطوُّر النظامين السياسي والاقتصادي في الصين مجرد دحضٍ لأفكار فوكوياما، لكان ذلك أمرا لافتا بحد ذاته. ولكن ابتعاد الصين عن الليبرالية وعن اقتصاد السوق الحرة ليس إلا وجها واحدا للقصة.

أما الوجه الآخر، والأكثر إثارة، فهو أن الولايات المتحدة أصبحت تشبه الصين بدرجة كبيرة. فمع تعمُّق اندماج الاقتصادين الأميركي والصيني وتشابكهما، وهي ظاهرة أطلق عليها المؤرخ نيال فيرغسون اسم “تشايميريكا” (Chimerica)، اتجهت السياسة الأميركية أيضا نحو مسارٍ لاليبرالي بوضوح، وكان صعود الصين عاملا رئيسيا في ذلك.

لقد أظهرت دراسات موثوقة صلة قوية بين ما يُعرف بـ”الصدمة الصينية”، أي نزوح وظائف التصنيع من الولايات المتحدة وتدمير عدد كبير من المجتمعات الأميركية التي اعتمدت على التصنيع سابقا، وبين الارتفاع الحاد في الاستقطاب بين الناخبين الأميركيين وازدياد مطالبهم باتخاذ إجراءات سياسية قوية تجاه تلك المسألة.

ففي الانتخابات الرئاسية لعام 2016، اعتبر كلٌّ من هيلاري كلينتون ودونالد ترامب أن صعود الصين هو السبب الرئيسي في تدهور الوضع الاقتصادي الأميركي.

لم يتنبَّأ فوكوياما بتطور كهذا. غير أن تحول الولايات المتحدة نحو اللاليبرالية لم يكُن ليُدهش مفكرا آخر من مفكري القرن العشرين، وهو كارل شميت، القانوني والمؤرخ السياسي الألماني.

فقد ذاع صيت شميت أثناء جمهورية فايمار الألمانية المُنهارة في عشرينيات القرن الماضي، ثم لاحقته سُمعة سيئة فيما بَعد بسبب دعمه للديكتاتورية النازية الصاعدة آنذاك وتقديم المساعدة لها. ما يُهمِّنا هُنا هو أن النسخة التي قدمها شميت لحركة التاريخ هي التي تسير الولايات المتحدة وفقا لها الآن، وتهتدي بمبادئها إدارة ترامب في دفع البلاد نحو اتجاه أكثر سلطوية.

الاستثناء الذي أصبح القاعدة

منذ الولاية الأولى لترامب، اعتمد البيت الأبيض بشكل متزايد على ادعاءات غير مُجرَّبة أو مشكوك فيها حول صلاحيات الرئيس، مثل الأوامر التنفيذية المستندة إلى إعلانات “الطوارئ” أو “تهديد الأمن القومي”، وذلك من أجل حماية الصناعات والوظائف الأميركية من المنافسة الصينية المتسارعة، وحماية الولايات المتحدة من جهود الحكومة الصينية لسرقة بياناتها وحقوق الملكية الفكرية لابتكاراتها، واختراق شبكاتها الحيوية، وجعلها معتمدة على الكيانات الصينية، وإضعاف قدراتها الدفاعية.

في الإدارة الثانية لترامب، توسَّعت هذه الممارسات إلى حدٍّ بعيد يتجاوز ما كان يُبرَّر له سابقا بالتهديدات الاقتصادية والأمنية التي تُمثِّلها الصين.

إذ صار يُستخدَم هذا النوع من السلطة على نحو عشوائي لفرض رسوم جمركية عالمية شاملة وعقوبات وحظر على التصدير وقيود على الاستثمار، وإصدار قرارات ذات طابع مرتكز للدولة وقوائم سوداء، واختبارات ولاء قائمة على أجهزة كشف الكذب لضباط إنفاذ القانون، وعسكرة الشرطة، وتنفيذ عمليات فصل جماعي وعفو جماعي وترحيل جماعي، واستخدام النظام القانوني سلاحا بوجه “الأعداء” السياسيين والإعلاميين، وتجميد الأموال أو إعادة توجيهها، وإنشاء كيانات حكومية جديدة مع إلغاء أو تقليص حجم مؤسسات قائمة، وممارسة توجيه حكومي مباشر للمؤسسات الخاصة مثل الجامعات وشركات المحاماة.

نتيجة لذلك، ابتعدت الولايات المتحدة ابتعادا حاسما عن الديمقراطية الليبرالية واتجهت نحو ما سمّاه شميت بـ”الديمقراطية الاستفتائية”، أي النظام الذي يحكم فيه رئيس منتخب (أو مُصدَّق عليه شكليا) دون وجود ضوابط قانونية تَحُدُّ من سلطته.

أما أطروحة فوكوياما، فهي تقف عاجزة أمام هذه الظاهرة، إذ إن منطقه كان يفترض أن اللاليبرالية محكوم عليها بالانكماش، لا بالانتشار داخل الديمقراطيات الليبرالية ذاتها، ناهيك بأن يحدث ذلك في أقدم ديمقراطية ليبرالية في العالم.

من اللافت أن التكامل الاقتصادي القائم بين القوتين العظمييْن الحاليتين، الولايات المتحدة والصين، كان غائبا تماما عن المنافسة إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

فموسكو لم تتعامل مع المنظومة الواسعة من قواعد التجارة والاستثمار الأميركية، ولذلك فإن المعايير المستوحاة من النموذج الأميركي، التي كانت تُطبَّق على مستوى العالم من قِبل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي وغيرها من المؤسسات الدولية، لم تتعرض لأي تحدٍّ من الخصم الأيديولوجي لواشنطن حينها.

وكان أثر ذلك هو تعزيز النظام السياسي الديمقراطي الليبرالي داخل الولايات المتحدة، وترسيخ وهمٍ مفاده أن أميركا لا يمكنها إلا أن تنشر الديمقراطية الليبرالية، وأنها هي نفسها لا يُمكن أن تنحرف عنها.

لو عاش كارل شميت فترة أطول (إذ توفي عام 1985 عن عمر 96 عاما)، لرأى إمكانية مسار مختلف. فقد وُلد شميت عام 1888 لأسرة كاثوليكية متديِّنة من الطبقة الوسطى الدنيا في بلدة بلِتِّينبرغ بولاية وستفاليا ذات الأغلبية البروتستانتية، وصعد لاحقا بوصفه أستاذا في القانون الدستوري والتاريخ السياسي الأوروبي.

وتشكَّل تفكير شميت في ظل القلق من الأزمات السياسية والاقتصادية التي عانتها ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي، وهي أزمات ألقى باللوم فيها على دستور ليبرالي شجَّع الإجرائية وما أحدثته من شلل سياسي، بدلا من توحيد الأمة وفتح الباب لقيادة حاسمة.

ورغم أن شميت لم يزعم أن نظاما لاليبرالي لا بد أن يحل محل الليبرالية، فإنه جادل بأن الليبرالية بطبيعتها هشَّة، وأنها ستتحطَّم حتما بفعل الأزمات، أي تلك الأحداث التي لا يمكن لأي دستور أو منظومة قوانين أن تتصورها أو تستوعبها. وفي مثل هذه اللحظات، يُضطَّر صاحب القرار إلى العمل خارج الحدود القانونية من أجل الدفاع عن النظام الليبرالي نفسه الذي تُقيِّده تلك الحدود.

لم يرَ شميت في التاريخ مسارا يتمخَّض عنه باستمرار تقدُّم الحضارة على غرار هيغل أو فوكوياما، بل رأى فيه استمرارا للصراع، وبالتحديد بين الهويات السياسية. ورأى شميت أن الفكرة الليبرالية القائلة بإمكانية اختزال السياسة إلى نقاش قائم على القواعد والتصويت داخل الدول وفيما بينها ليست سوى وهمٍ خطير.

فالتمييز بين “الصديق والعدو” أحد الثوابت الأبدية في المجتمعات البشرية المنظمة، وأي جماعة تحاول إنكاره إنما تؤكد وجوده بإثارة مقاومة الآخرين لها ولادعاءاتها حول قيمٍ تُقدَّم على أنها عالمية، في حين أنها لا تخدم إلا مصالح جماعة بعينها.

ولذلك اعتبر شميت الدعاة الليبراليين إلى السلام أخطر الأيديولوجيين السياسيين، لأنهم بطبيعتهم يصورون خصومهم على أنهم أعداء للإنسانية، ومن ثم يُبررون إبادتهم الكاملة.

لم يكن للولايات المتحدة أعداء عبر تاريخها لأنها سعت إلى إيجادهم، بل لأنها كثيرا ما جسَّدت قِيما تُقدَّم على أنها كونية، مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي قيم اصطدمت مع قيم خصوصية يتبنَّاها آخرون، مثل الحفاظ على الاستقلال الوطني والكرامة والثقافة.

وبما أن القيم الأميركية لم تكن تقبل الاستثناءات، فقد كانت أكثر ميلا لإشعال حروب شاملة، كما حدث في فيتنام وأفغانستان والعراق، مقارنة بالقيم الوطنية ذات الخصوصية.

ولو كان شميت حيا لقال إن الولايات المتحدة، حين رأت نفسها “ما بعد تاريخية”، أصبحت عُرضة للاستغلال من دول تتبع لاهوتا سياسيا “تاريخيا”. فقد تمكَّنت الصين، قبل الجميع، من استغلال الآليات الليبرالية الضعيفة القائمة على القواعد، مثل تلك المنصوص عليها في منظمة التجارة العالمية وفي قوانين التجارة والاستثمار الأميركية، من أجل السيطرة على قطاعات من الاقتصاد العالمي، مما مسَّ الأمنين القومي والاقتصادي الأميركيين مباشرة.

وقد نتج عن ذلك تصاعد شعور بالتهديد داخل الولايات المتحدة، مما ولَّد طلبا شعبيا، أو على الأقل تسامحا عاما، مع وجود صاحب قرار يعلن حالة “أزمة”، ويتصرف خارج القيود التشريعية أو القضائية المعتادة.

وقد رأى شميت أن هذه القيود إنما تمنح وَهْما بوجود حكم ديمقراطي ليبرالي في الفترات الفاصلة بين الأزمات، وأنه إذا ما تكرَّرت الأزمات أو استمرت طويلا، فإن هذا الوهم يتلاشى سريعا، ليؤدي إلى انزلاق حاد نحو السلطوية.

كان شميت سيعتبر منظمة التجارة العالمية محاولة ليبرالية خادعة لإخفاء السياسة تحت عباءة الاقتصاد. فمن وجهة نظره، ليست الصراعات التجارية سوى صراعات سياسية، وحروب التجارة لا تفعل سوى كشف اختلالات القوة التي لا يمكن حلُّها أبدا عبر القواعد متعددة الأطراف أو آليات تسوية النزاعات أو هيئات الاستئناف وما شابه.

وبعد الصعود السريع للصين بوصفها قوة اقتصادية كبرى عقب انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، أتى رد الفعل الأميركي المضاد الذي بدأ في الولاية الأولى لترامب، من رفضه تعيين قضاة الاستئناف في المنظمة، وفرضه حواجز على الواردات بذريعة الأمن القومي بطريقة غير قابلة للتقاضي، وفرضه رسوما جمركية عالمية شاملة تنتهك مبدأ “الدولة الأكثر تفضيلا”، وهو رد فعل كان حتميا وفقا لمنطق شميت.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب (يسار) والرئيس الصيني شي جين بينغ يتصافحان قبل اجتماعهما خلال قمة قادة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان، 29 يونيو/حزيران 2019 (رويترز)

ومع استمرار نمو القوة الاقتصادية والعسكرية للصين، كان شميت ليتوقع أن الولايات المتحدة ستسعى إلى تحييد تكتلات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحلف الناتو وحتى الأمم المتحدة ذاتها، أو الانسحاب منها، إذ كان شميت يرى أن جميع هذه المؤسسات، التي أنشأتها واشنطن عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، ليست سوى تجلياتٍ لإصرارها على فرض أشكال خفية من الهيمنة تحت ستار الالتزام بالعالمية.

ولكن مع تراجع الهيمنة النسبية لواشنطن، فإن ذلك التحكُّم يضعف تدريجيا، ونتيجة لذلك، تعود الولايات المتحدة لتتبنَّى خطابا مفاده أن سخاءها قد أُسيءَ استخدامه، وأن المؤسسات التي جسَّدت هذا السخاء أصبحت بالية، وأنه لا بد لها من فك ارتباطها بها.

الفزع الأحمر

ليس من الضروري أن يتبنَّى المرء تشاؤم شميت تجاه الدوافع الليبرالية كي يدرك منطقه في الإيمان بانحدار الليبرالية. يكفي فقط قبول فرضيته القائلة إن السياسة أبدية بطبيعتها وعدائية في جوهرها، وإن الليبرالية هشَّة أمام الأزمات لأنها تعتمد على وهم أن القانون هو صاحب السيادة الحقيقية، وليس صانع القرار الذي يتجاوزه.

ولنقتبس من أقدم أعمال شميت اللافتة، “اللاهوت السياسي” الصادر عام 1922، قوله إن “صاحب السيادة (أو الحاكم الفعلي) هو مَن يُقرِّر الاستثناء”، أي اللحظة التي يُعلَّق فيها النظام القانوني باسم الحفاظ عليه.

وفي فترات الصراع الشديد مع كيانات سياسية أخرى، يكون على الليبرالية الديمقراطية إما أن تتراجع أمام قوى أكثر قدرة على توحيد المجتمع، مثل الشيوعية أو الفاشية أو غيرها من أشكال الديكتاتورية، وإما أن تواجه احتمالات الفوضى والهزيمة.

لقد أدَّى صعود الصين إلى مرتبة المنافس شبه الندِّ للولايات المتحدة، مقرونا بقدرتها على تحقيق طموحاتها في إعادة تشكيل العلاقات والمؤسسات والمعايير الدولية، إلى أن تنظر واشنطن إليها بوصفها تهديدا وجوديا داهما. وعلى مدى العقد الماضي، تحوَّلت العلاقة بين البلدين إلى مواجهة حضارية شاملة. ففي عام 2005، دعا روبرت زوليك، نائب وزير الخارجية الأميركي آنذاك، الصين إلى أن تصبح “طرفا مسؤولا” داخل النظام الدولي الليبرالي.

لكن بدلا من ذلك، تحوَّلت الصين إلى ما وصَّفته إدارة ترامب عام 2017 بأنه قوة راغبة في تغيير الوضع القائم (Revisionist)، أو وفق مصطلحات شميت “عَدُو مطلق” للنظام القائم. لقد دفع التهديد الصيني الولايات المتحدة إلى خوض تحوُّل جذري ومتناقض في آنٍ واحد، إذ أصبحت واشنطن بحجة الدفاع عن هويتها الليبرالية أقلَّ ليبرالية وأكثر نزوعا نحو الاستبدادية. ما جرى باختصار هو توقُّع فوكوياما بالمقلوب.

تماشيا مع مقولة شميت إن “صاحب السيادة هو مَن يُقرِّر الاستثناء”، أعلن ترامب في ولايته الثانية، وبشكل شبه يومي، عن حالات طوارئ وتهديدات غير معقولة للأمن القومي لتبرير أفعال تنتهك الأعراف القانونية.

فحتى ظواهر عادية مثل عجز الحساب الجاري، التي وُجدت لعقود طويلة ولم تُظهر أي علاقة سلبية بالأداء الاقتصادي، صُنِّفت على أنها أزمات تتطلب من الرئيس أن يتولى سلطات فرض الرسوم الجمركية دون حدود، وهي سلطات يمنحها الدستور الأميركي حصريا للكونغرس.

وبالدفاع عن تصرفات ترامب الرئاسية غير المسبوقة بوصفها مُتَّسِقة مع النظرية القانونية المعروفة بـ”السلطة التنفيذية المُوحَّدة”، استحضر مستشارو الرئيس أفكار شميت عن صاحب القرار السيادي غير المُقيَّد بأساطير الليبرالية حول الحُكم وفق القواعد والنقاش وتوزيع السلطات، على حد وصفهم. إن فشل الكونغرس في الدفاع عن صلاحياته، كما أرد له الآباء المؤسسون للولايات المتحدة، علامة لا لبس فيها على أن النظام الدستوري في حالة تصدُّع.

من الواضح أن الصين ليست السبب وراء كل هذه الادعاءات الواسعة الجديدة بالسلطة الرئاسية. لكنها كانت الأداة التي استُخدمت لتقويض أسس الضوابط والتوازنات الدستورية، وكل ذلك باسم حماية “العُمَّال الأميركيين المُهدَّدين”.

فكما رأى فوكوياما أن الديمقراطية الليبرالية تُشكِّل مجالا جاذبا يشد الأنظمة غير الليبرالية نحوه، كان شميت ليرى في صعود الصين غير الليبرالي القوة التي تشد الولايات المتحدة بعيدا عن الليبرالية، ويجري هذا -لسخرية القدر- باسم الدفاع عن النظام الدولي الليبرالي.

ومن اللافت أن الطبقة الفكرية في الصين شهدت، منذ عام 2003، ما وصفه المفكرون الصينيون والغربيون بـ”حُمَّى شميت”، أي اهتماما متزايدا بمفكر غربي يُزعم أنه فكَّك فكرة تفوُّق الديمقراطية الليبرالية الأميركية على غيرها من أشكال التنظيم السياسي.

فمنذ عام 1979 حتى 2003، كانت الإشارات إلى شميت في المقالات الأكاديمية ضمن قاعدة بيانات المنشورات الوطنية الصينية ضئيلة للغاية، لكن منذ ذلك الحين، ارتفعت باطراد سنويا، حتى زادت الآن بأكثر من ثلاثين مرة ما كانت عليه عام 2003. لقد أصبح شميت، في الواقع، بمنزلة “فوكوياما الصيني”.

الطريق إلى اللا-ليبرالية

هل الطريق إلى اللاليبرالية الأميركية طريق ذو اتجاه واحد؟ الإجابة هي لا. فالنظريات التي قدَّمها شميت حول الليبرالية، بخلاف نظريات فوكوياما، لم تكن غائية ولم تزعم وجود حتميات، بل قالت بوجود اتجاهات وأنماط فحسب.

وفي هذا الصدد، يجدر التذكير بالعنوان الكامل لكتاب فوكوياما الأكثر مبيعا: “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”. يشير “الإنسان الأخير” إلى تصوير الفيلسوف فريدريش نيتشه لنمط الإنسان الذي يُحتمل أن يظهر من اكتمال المجتمع الليبرالي الاستهلاكي الحقيقي.

كان هذا الإنسان، كما خشي نيتشه وفوكوياما، كائنا بلا شغف ولا قناعة، يُقدِّر الأمان والراحة أكثر من النبل والبطولة، وربما يصل به الأمر إلى تقويض الليبرالية نفسها بتقاعسه عن الدفاع عنها.

وبالمثل، فإن “الإنسان الأخير” في طريق شميت نحو مجتمع يصنعه الزعيم قد يكون ذلك الذي يسأم في نهاية المطاف من “الانتصار” و”العظمة”، خاصة إن لم يتحقق أيٌّ منهما فعليا، ويَحِنُّ إلى الهدوء النسبي لقواعد وإجراءات وروتين يمكن الاعتماد عليها.

ومع رفضه الانخراط في وجودية يعتبر فيها كل تحدٍّ سياسي أو اقتصادي حالة طوارئ تستلزم تدخُّلا رئاسيا، يمنح هذا الإنسان المؤسسات الخاملة، مثل الكونغرس، الجرأة على إعادة تأكيد صلاحياتها التاريخية من جديد. وتبقى مشكلة “العدو الشميتي” بقدراته ونِيَّاته قائمة بالطبع، لكن نطاق السلطات الرئاسية المُعلَنة يتقلَّص ليصبح متناسبا مع حجم التهديد الفعلي لا أكثر.

لكن التاريخ يشير إلى أن العودة في اتجاه الديمقراطية الليبرالية، مثل حالة ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، لا تكون سلِسة أو تلقائية أبدا، بل تسلك على الأرجح مسارات مُتعرِّجة ودامية ومُكلفة. وقد حذَّر جيمس ماديسون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، تحذيرا شهيرا من أخطار تصاعُد الانقسام الفئوي وفشل نظام الضوابط والتوازنات، وهما ظاهرتان واضحتان اليوم، على الجمهورية الأميركية.

ما قد يُعيد إحياء حظوظ الليبرالية الديمقراطية هو إعادة صياغة الرابط الأيديولوجي والأمني والاقتصادي الذي جمع الولايات المتحدة بحلفائها الأوروبيين والآسيويين أثناء الحرب الباردة. هذا الرابط عزَّز دور “الأصدقاء السياسيين” في الحسابات الشميتية، مما قلَّل بدوره من اللجوء إلى الاستثناءات التي تُعلَّق بموجبها القواعد الدستورية، وهي الاستثناءات التي تُضعف هذا الرابط وتُقوِّض أمن وازدهار الجميع.

لكن احتمال حدوث إعادة صياغة كهذه يبدو بعيد المنال في الوقت الراهن، خصوصا في ضوء صعود الأحزاب الشعبوية اليمينية في كلٍّ من التشيك وفنلندا وفرنسا وألمانيا والمجر وإيطاليا وهولندا وبولندا والبرتغال ورومانيا وسلوفاكيا والسويد وبريطانيا، وهي دول لطالما جسَّدت كفة الأصدقاء التقليديين للولايات المتحدة بالمعنى الشميتي، إذ تشهد كل هذه البلاد تشكيك الأحزاب الصاعدة فيها في جدوى استمرار الديمقراطية الليبرالية التي تلت الحرب العالمية الثانية.

يبدو إذن أن مغازلة اللاليبرالية الشميتية في الغرب لا تزال في بدايتها.


هذا المقال مترجم عن فورين أفيرز ولا يعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة التحريري

Exit mobile version