Site icon روكب اليوم

من الزبدة و”الحموم”.. اكتشاف بكتيريا نافعة بهوية جزائرية | علوم

shutterstock 1518512396

روكب اليوم

تعتمد أوروبا منذ عقود في الصناعات الغذائية على سلالات محدودة من البكتيريا النافعة “البروبيوتيك”، والتي اكتُشفت أو عُدلت وراثيا منذ زمن بعيد، لذلك يبدو الأمل في العثور على أنواع جديدة وكأنه حلم بعيد المنال، إذ إن معظم السلالات المستخدمة اليوم في الأغذية الوظيفية تنحدر من نفس المصادر القديمة التي تمت دراستها واستُهلكت علميا حتى الإشباع.

وانطلاقا من هذا التحدي سعى فريق بحثي جزائري تحدّث أحد أعضائه للجزيرة نت إلى البحث عن سلالات محلية في منتجات الموروث الغذائي الجزائري التقليدي، ونجح في عزل البعض منها وأثبت أن لها خصائص واعدة يمكن أن تعيد رسم خريطة صناعة البروبيوتيك العالمية، وتم الإعلان عن هذا الإنجاز في دورية “بايوكاتالسس آند أغريكالشرال بيوتكنولوجي”.

وتعيش البكتيريا النافعة “البروبيوتيك” بشكل طبيعي في الجسم، خصوصا في الأمعاء، ومصدرها بعض الأغذية، وتلعب دورا مهما في الحفاظ على التوازن الميكروبي وصحة الجهاز الهضمي، وعلى عكس الصورة النمطية عن البكتيريا كمسببات للأمراض فإن هذه الكائنات المجهرية تساعد في تحسين الهضم وتعزيز المناعة ومقاومة البكتيريا الضارة.

وتُستخدم سلالات “البروبيوتيك” على نطاق واسع في صناعة الأغذية والمكملات الغذائية، حيث تضاف إلى منتجات مثل الزبادي والحليب المخمر والمشروبات الصحية، كما يجري توظيفها طبيا في علاج اضطرابات الأمعاء والوقاية من الالتهابات، وحتى دعم الصحة النفسية عبر ما يُعرف بـ”محور الأمعاء-الدماغ”.

ومع تصاعد الاهتمام العالمي بالبدائل الطبيعية والآمنة باتت “البروبيوتيك” تمثل أحد أهم الاتجاهات الحديثة في أبحاث الغذاء والدواء.

ويقول الدكتور بن بوزيان بوعسرية الأستاذ في مختبر الاقتصاد الحيوي والسلامة الغذائية والصحة بجامعة عبد الحميد ابن باديس في الجزائر إنه “خلال فترة دراسة الدكتوراه في المعهد الوطني للبحث الزراعي في فرنسا لاحظت أن هناك نهجين رئيسيين لدراسة البكتيريا النافعة (خاصة بكتيريا حمض اللاكتيك)”.

ويضيف “الأول يستخدم سلالات معدلة وراثيا تمت هندستها لتظهر صفات معينة مثل مقاومة الحموضة أو إنتاج مواد محددة، لكن هذا الاتجاه يواجه عوائق قانونية وأخلاقية كبيرة في أوروبا بسبب القيود المفروضة على الكائنات المعدلة وراثيا، والثاني يعتمد على البحث عن سلالات طبيعية (غير معدلة) تمتلك صفات نافعة بشكل طبيعي، مثل التحمل للحمض أو إنتاج مضادات بكتيرية، لكن أوروبا تمتلك بنوكا ضخمة للسلالات المعروفة، لذا من النادر جدا العثور على نوع جديد أو غير مستغل”.

ويتابع “من هنا جاءت فكرتي في العودة إلى الجزائر لاستكشاف السلالات المحلية الأصلية الموجودة في المنتجات التقليدية، والتي لم تدرس من قبل، بهدف اكتشاف أنواع جديدة من البكتيريا النافعة غير المعروفة عالميا، والتي يمكن أن تكون ذات قيمة صناعية أو صحية كبيرة”.

بدأت مهمة بوعسرية ورفاقه بجمع عينات من منتجين جزائريين شهيرين هما الزبدة البلدية والقمح المخمر (رويترز)

من الزبدة والقمح المخمّر إلى المختبر

بدأت مهمة بوعسرية ورفاقه بجمع عينات من منتجين جزائريين شهيرين هما الزبدة البلدية والقمح المخمر المعروف محليا باسم “الحموم” أو “كسكس المزيت” أو “البرويل”، ثم نقلها إلى المختبر لتحليلها بدقة.

واستخدم الباحثون في المرحلة الأولى تقنيات الزراعة البكتيرية لعزل الكائنات الدقيقة الحية من العينات، ومراقبة نموها على وسائط غذائية خاصة، وبعد ذلك خضعت السلالات المفصولة لاختبارات جينية دقيقة باستخدام تقنية تفاعل البوليميراز المتسلسل (بي سي آر) وتسلسل جين “سكستين إس آر آر إن إيه”، وهي الطريقة القياسية في تحديد الهوية الوراثية للبكتيريا.

ولفهم الدور الذي لعبته التقنيتان تخيل لو أنك تريد قراءة جملة مكتوبة بخط صغير جدا على ورقة، لكن الحروف باهتة ولا يمكن قراءتها، لكنك حصلت على أداة تجعل تلك الحروف أشد وضوحا، هذا ما تفعله تقنية “بي سي آر”، فهي تقوم بتضخيم أجزاء محددة من المادة الوراثية، مما أتاح للباحثين الحصول على نسخ كافية لتحليلها.

بمعنى آخر، إذا كان الحمض النووي للبكتيريا هو “كتاب التعليمات الوراثية” فإن الـ”بي سي آر” يعمل كآلة تصوير تكبر صفحة معينة من هذا الكتاب لتمكن العلماء من دراستها بالتفصيل.

وبهذه الطريقة، يستطيع الباحثون الحصول على كمية كافية من المادة الوراثية لتحديد هوية البكتيريا بدقة، ثم ينتقل العلماء إلى الخطوة الثانية، وهي قراءة تسلسل الجين “سكستين إس آر آر إن إيه”.

ويوجد هذا الجين في جميع أنواع البكتيريا تقريبا، لكنه يختلف قليلا من نوع إلى آخر، تماما مثل بصمة الإصبع التي تميز كل إنسان، ومن خلال مقارنة تسلسل هذا الجين مع قواعد بيانات عالمية تحتوي على آلاف الأنواع البكتيرية المعروفة يستطيع الباحثون معرفة إلى أي نوع تنتمي البكتيريا الجديدة أو ما إذا كانت سلالة غير معروفة من قبل.

خضعت السلالات المفصولة لاختبارات جينية دقيقة (شترستوك)

12 سلالة بكتيرية بوظائف علاجية

وباستخدام الطريقتين -يقول الدكتور بوعسرية- “تمكنا من عزل 12 سلالة بكتيرية مفيدة من الزبدة البلدية والقمح المخمر (الحموم)، وكانت هذه السلالات تنتمي إلى 3 فصائل رئيسية من بكتيريا حمض اللاكتيك، وهي “لاكتبلانتيباسيلوس بلانتاروم”، “لاكتكاسيباسيلوس باراكازي”، و”ليفيلاكتوباسيلوس بريفس”.

والسلالات التي تم اكتشافها تنتمي إلى أنواع معروفة عالميا، أي أنها ليست أنواعا جديدة تماما من حيث التصنيف العلمي، لكنها تعد سلالات جديدة محليا، حيث لم تكن معروفة أو معزولة من المنتجات الجزائرية التقليدية من قبل، وتتميز بمواصفات خاصة تميزها عن نظريتها المعزولة من دول أخرى.

ويقول بوعسرية “أظهرت نتائجنا أن سلالات “بلانتاروم” و”باراكازي” تمتاز بنمو قوي عند تغذيتها على كل من الغلوكوز واللاكتوز، أي أنها قادرة على التكيف مع مصادر غذائية مختلفة، وهي خاصية مطلوبة في صناعة الأغذية والمكملات البروبيوتيكية، أما سلالات “بريفس” فقد أظهرت نموا أضعف قليلا في وجود اللاكتوز مقارنة بالغلوكوز، لكنها مع ذلك احتفظت بقدرتها على البقاء في البيئات الحمضية والمالحة”.

وعند اختبار السلالات المعزولة في ظروف تحاكي البيئة القاسية للمعدة والأمعاء يوضح أن “جميع السلالات باستثناء واحدة فقط أثبتت قدرتها الفائقة على الصمود، إذ تجاوزت نسبة بقائها على قيد الحياة 90% حتى بعد التعرض للأحماض الصفراوية، وهي من أصعب التحديات التي تواجه البكتيريا داخل الجسم”.

ويضيف أن “الاختبارات أظهرت أيضا أن جميع السلالات كانت آمنة تماما، إذ لم تُظهر أي نشاط لإنزيم “دي أوكسي رايبو نيوكلييز” أو خصائص محللة للدم، كما كانت حساسة لمعظم أنواع المضادات الحيوية، وهي علامة أمان أساسية قبل اعتمادها في الصناعات الغذائية أو الصحية”.

ويخلص من ذلك إلى أن “السلالات الجزائرية -خاصة “لاكتبلانتيباسيلوس بلانتاروم” و”لاكتكاسيباسيلوس باراكازي”- تمتلك خصائص بروبيوتيكية قوية تجعلها مؤهلة لأن تكون بديلا محليا مستقبلا للسلالات المستوردة التي تهيمن على الأسواق الأوروبية والآسيوية منذ عقود”.

تحديات كبيرة نحو التطبيق

ورغم هذه النتائج الواعدة فإن تحويل السلالات المكتشفة إلى منتجات غذائية أو دوائية يواجه تحديات كبيرة، أهمها أن الحفاظ على حيوية البكتيريا واستقرارها أثناء عمليات التصنيع والتخزين والنقل يُعد من أصعب المراحل، خاصة أن “البروبيوتيك” كائنات حساسة للحرارة والحموضة والأكسجين.

ويقول بوعسرية “تُستخدم تقنيات مثل التغليف المجهري لحمايتها، لكنها تزيد تكلفة الإنتاج وتتطلب توافقا حسيا مع الخواص الحسية للمنتج الغذائي، كما أن غياب شركات وطنية متخصصة في إنتاج مزارع التخمر الصناعية في الجزائر يجعل من الضروري إقامة شراكات مع القطاع الصناعي وتطوير بنية تحتية وطنية في هذا المجال الحيوي”.

وإضافة إلى هذا التحدي التطبيقي فإن الاكتشاف الجديد يبرز أهمية الحاجة الملحة إلى إنشاء بنك وطني للسلالات الميكروبية الجزائرية لحفظ هذه الثروة الجينية واستثمارها في الصناعات الغذائية والدوائية والبحث العلمي.

ويضيف أن “هذا البنك يمكن أن يشكل منصة إستراتيجية لتوثيق وحفظ السلالات المحلية وإتاحتها للباحثين والمصنعين وتعزيز الاستقلال العلمي والتكنولوجي في مجال البيوتكنولوجيا الميكروبية”.

وبالتغلب على التحديات والنجاح في إنشاء البنك الوطني يرى بوعسرية أن الجزائر يمكنها بهذه الطريقة التحرر من الاعتماد الكامل على الشركات الأجنبية التي تحتكر سوق السلالات الصناعية عالميا.

وتهيمن على سوق البروبيوتيك العالمي منذ عقود 3 شركات كبرى هي “دي إس إم” الهولندية”، و”كريستيان هانسن”، و”دانيسكو” الدانماركيتان، حيث تمتلك هذه الشركات آلاف السلالات المسجلة وتتحكم في معظم الإنتاج التجاري للبكتيريا النافعة المستخدمة في الأغذية والمكملات حول العالم.

Exit mobile version