روكب اليوم
انتهت منصة نتفليكس أواخر سبتمبر/أيلول الماضي من عرض المسلسل الكوري “هنيئا مريئا جلالتك” (Bon Appétit, Your Majesty)، وهو عمل درامي يوظّف الطعام كذاكرة ووسيلة لإعادة بناء الهوية؛ فكل طبق في الحكاية يستدعي شعورا، ويعيد تشكيل العلاقات والمصائر من خلال الحواس الخمس، وعلى رأسها التذوق.
تدور الأحداث داخل قصر جوسون الملكي، حيث لا يُعدّ الطبخ ترفا أو متعة شخصية، بل يعد فعلا سياسيا يعكس موازين القوة: من يقدّم الطعام؟ ومن يُحرم منه؟ وأي الأطباق توضع أمام الملك؟
اقرأ أيضا
list of 2 itemsend of list
بهذه الرؤية، يتحول الطهي إلى لغة للسلطة والهيمنة والخضوع، ويعيد تعريف مفاهيم القرب والبعد، والخوف والثقة، والولاء والخيانة.
ويمزج المسلسل بين الخيال التاريخي والرومانسية والكوميديا، مقدّما الطعام ليس كعنصر جمالي فحسب، بل كخيط سردي مركزي تتقاطع حوله الشخصيات والصراعات.
بين هشاشة السلطة وقوة المذاق
حقق المسلسل نجاحا جماهيريا واسعا منذ عرضه، إذ تصدّر قائمة الأعمال الكورية غير الأصلية الأكثر مشاهدة على نتفليكس، كما أصبح الأعلى مشاهدة على قناة “تي في إن” الكورية، محتفظا بمكانته في قوائم الترند ومناقشات الجمهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي رغم مرور أسابيع على نهايته.
وتتمحور القصة حول يون جي يونغ، طاهية معاصرة تجد نفسها فجأة، وبطريقة غامضة، منقولة عبر الزمن إلى حقبة جوسون، في زمن آخر ملوك كوريا. هناك، تصطدم بطباع الملك يي هيون المعروف بدقته الشديدة وحساسيته المفرطة في تذوق الطعام.
وفي عالم تحكمه السلطة والتقاليد الصارمة، تصبح مهارات جي يونغ في الطهي وسيلة للبقاء وللتأثير، بعد أن تُكلّف بإعداد أطباق خاصة للملك. ومن مطبخ القصر، تنطلق رحلة معقّدة تجمع بين المواجهة والاقتراب، لتكشف تدريجيا عن هشاشة السلطة وقوة المذاق، وعن كيف يمكن للنكهة أن تهزّ العرش أكثر مما تفعل السياسة.
4 أسباب للنجاح
حظي العمل بالعديد من الإيجابيات الفنية التي ساعدت على نجاحه، على رأسها:
-
معالجة درامية ذكية
نجح السيناريو بتحويل الطعام إلى لغة درامية مستخدما تكرارا بنيويا للحلقات (تحدٍ، تحضير، تذوق، تأثير) وهو ما نتج عنه إيقاع مألوف بدون الوقوع في فخ الرتابة مع الحفاظ على ترابط منطقي بين دوافع الشخصيات ونتائج أفعالها.
ويحسب للنص قدرته على توظيف الكوميديا داخل المواقف السلطوية بدون ابتذال، والأهم توظيف الطهي كأداة للتواصل ووسيلة لتخفيف التوتر وبناء الروابط عبر اختلاف الأزمنة والطبقات.
-
الأداء التمثيلي
أجادت الممثلة “ليم يون آه” تقديم شخصية الطاهية المرحة والمؤثرة مستندة إلى الخفة التعبيرية بدون سطحية كما أجادت مشاهدها داخل المطبخ التي عكست التفوق المهني للشخصية.
بينما برع الممثل “لي تشاي مين” في تجسيد شخصية الملك المتحفظ الذي يبدأ تدريجيا كشف ملامح أعمق وهشاشة داخلية. وجدير بالذكر أن الانسجام الذي تجلى واضحا بين البطلين كان أحد أهم أسباب تفاعل الجمهور مع القصة.
-
الإخراج واللغة البصرية
حظي العمل بإخراج بصري جذاب، حيث اعتمد المخرج على التباين البصري بين اللقطات الواسعة للقصر لإبراز صرامة النظام الملكي، وبين اللقطات القريبة للمطبخ وتفاصيله المبهجة لإبراز الديناميكية الحسية لعملية الطبخ، وهو ما قدم بالاستعانة بمؤثرات بصرية طريفة بعيدة كل البعد عن العبء البصري.
-
الموسيقى والتصميم الصوتي
أحسن صانعو المسلسل استثمار الموسيقى التصويرية في بناء اللحظة، والتركيز على التوتر الدرامي خلال منافسات الطهو أو مشاهد المواجهة في ساحات القصر، في ظل تصميم صوتي متميز ضم أصواتا مثل احتكاك السكاكين، غليان القدور، صوت البخار لتقديم تجربة حسية متكاملة وأكثر واقعية.
ورغم الإيجابيات السابقة، لم يخل العمل من العيوب على قلتها، أوضحها بطء الإيقاع ببعض الحلقات في المنتصف، وعدم إثقال الخيوط الدرامية للشخصيات الثانوية كما ينبغي؛ إذ جاءت بعض الشخصيات المعارضة محدودة التعبير، وأخيرا النهاية التي لم تكن مشبعة دراميا وإن كانت تشي باحتمالية لموسم ثان.
بين النص الأصلي والدراما
المسلسل الكوري “هنيئا مريئا جلالتك” مقتبس عن رواية الويب “البقاء كطاهي يونسانغون”، غير أن صنّاع العمل أجروا تعديلات ملحوظة على النص الأصلي؛ إذ غيّروا بعض الأسماء والتفاصيل التاريخية لتخفيف ارتباط القصة بالأحداث الحقيقية ومنحها مرونة درامية أوسع.
وأتاح ذلك للمسلسل حرية أكبر في بناء الشخصيات وتطوير العلاقات دون قيود توثيقية، وهذا جعل المشاهد العام ينخرط بسهولة في العالم الفانتازي الذي يجمع بين التاريخ والخيال.
كما أضاف المخرج وفريق الكتابة شخصيات ثانوية جديدة لإثراء الحبكة وتصعيد التوتر الدرامي، إلى جانب التركيز على الجانب البصري عبر تقديم وصفة طعام جديدة في كل حلقة، الأمر الذي عزز التجربة التلفزيونية البصرية والسمعية.
وأضفى العمل جرعات أوضح من الكوميديا الساخرة والرومانسية بين الطاهية والملك، لتتحول العلاقة من بعد سياسي وثقافي إلى تجربة إنسانية تجمع بين الشغف والسلطة
الطهي في الدراما الكورية
“هنيئا مريئا جلالتك” ليس الدراما الكورية الوحيدة التي وضع فيها الطهي في قلب السرد الدرامي، هناك أعمال أخرى شهيرة مثل مسلسل “باستا/معكرونة” و”الذواقة” و”ووك أوف لاف/مقلاة الحب” والتي حظيت جميعها بمشاهدات وتقييمات مرتفعة.
تشابهت الأعمال السابقة في استخدام المطبخ كأداة درامية مركزية، والتعامل سواء معه أو مع تحضير الوصفات باعتبارهما مسرحا للتوتر والصراع السلطوي والتطوير الشخصي والعاطفي للأبطال. مع الحرص على الاستثمار في الإضاءة واللغة البصرية والصوتية لتفعيل كافة حواس المشاهد وهو ما يجري عادة بالتوازي مع قصة رومانسية وقودها الطموح والحب.
إلا أن أبرز ما ميز “هنيئا مريئا جلالتك” عن باقي الأعمال، بناء حبكته على عنصر فانتازي تمثل في السفر عبر الزمن، وهذا أكسب القصة بعدا تاريخيا شيقا وطابعا مركبا جمع بين الحلم والواقع. بالإضافة إلى استخدام الطهي كعنصر سياسي وهو ما حول أشياء مثل القصر والملك والجوع والنكهات إلى رموز تجاوزت المعنى الظاهري.
“هنيئا مريئا جلالتك” دراما كورية قصيرة من 12 حلقة نجحت برفع مستوى “دراما المطبخ” إلى بعد جديد وتميزت ضمن تلك الفئة. ويمكن وصفها بالتجربة الماتعة ذات الطابع الخفيف والحسي، حيث تتقاطع المشاعر مع الطعام في إطار تاريخي مرح.
ورغم بعض الهدوء في المنتصف ونمطية بعض الشخصيات، إلا أن العمل يظل خيارا مناسبا للجمهور الذي يبحث عن قصة دافئة ذات بصمة بصرية أنيقة.
أخرج المسلسل جانغ تاي يو، وأسندت بطولته الرئيسية إلى ليم يون آه ولي تشاي مين.