



روكب اليوم
غزة- كل صباح، تستيقظ السيدة إكرام الكفارنة (62 عاما) على ثقل يجثم على صدرها. ولا يتعلق الأمر بمشكلة صحية، بل بحزن دفين يعاودها كلما تذكرت مدينتها بيت حانون التي وُلدت فيها، وعاشت فيها مراحل حياتها كلها.
وهذه المدينة الواقعة أقصى شمال قطاع غزة، والتي كانت تُعرف يوما ببساتينها وشوارعها، تحولت -وفق شهادات أهلها- إلى أرضٍ مسوّاة، دُمرت من فوق الأرض وتحتها. وتقول السيدة إكرام، التي تسكن اليوم في فصل دراسي تابع لجامعة الأزهر غرب غزة “يقولون لم يتبقَ فيها شيء، الاحتلال الإسرائيلي يدمر كل ما تبقى”.
وعادت وعائلتها إلى بيت حانون بعد اتفاق وقف إطلاق النار في يناير/كانون الثاني الماضي، ولكنها لم تمكث هناك سوى أسابيع قبل أن يُطلب منهم الإخلاء مجددا، وكان منزلهم مهدما جزئيا، فأصلحوا ما استطاعوا وسكنوه، لكنهم اليوم مشردون مجددا، في مكان مؤقت لا يصلح للحياة الآدمية.
حلم العودة
وتضيف المواطنة الفلسطينية “وُلدت هناك وكل ذكرياتي هناك.. أبي وأمي وزواجي وأولادي وأحفادي. كل صباح أصحو على هذا الحزن وأتساءل: إذا انتهت الحرب، أين سنعود؟ أين سنسكن؟ حتى بيتنا الذي رممناه ما زال موجودا”. ورغم كل ذلك، تؤكد أن بيت حانون أرض لا بد من العودة إليها حتى لو كانت مجرد كومة تراب، قائلة “سنعود ونبنيها من جديد، كما فعلنا دائما”.
ويوم الجمعة الماضي، نشر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، صورة جوية لبيت حانون، تفاخر حينها بأن هذه المدينة “سُويت بالأرض” في مشهد صادم يظهر مساحات شاسعة من الركام وبقايا أبنية مدمرة بالكامل.
تبدو الصورة من عَلٍ كأنها مشهدٌ صامتٌ… لكنها في الحقيقة صرخةُ عمرٍ بأكمله سُوّيت بالأرض.
تحت هذا الركام، لا حجارة فقط، بل نبضاتُ قلوبٍ عاشت هنا، وضحكاتُ أطفالٍ كانت تملأ المكان، وذاكرةُ مدينةٍ اختنقت تحت وابل نارٍ صهيونيةٍ نازيّةٍ.
بيت حانون.. لم تُهدم، بل أُعدِمت.
أُعدِمت… pic.twitter.com/1ou8TS8gfp
— أَحْمَد وَائِل حَمْدَان (@AHM3D_HAMDAN) July 11, 2025
وذكرت القناة 14 الإسرائيلية، الأحد الماضي، أن مهمة جيش الاحتلال في الوقت الراهن هي “تدمير بأسرع وقت ممكن” للمدينة (شمالي قطاع غزة) قبل إتمام صفقة تبادل الأسرى مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ووقف إطلاق النار.
وأفادت بأن هناك هدفا محددا للقوات البرية الإسرائيلية في اللحظة الراهنة وهو “تدمير فوق أرض بيت حانون وتحتها، وقتل كل من يوجد من عناصر حماس بداخل الأنفاق”.
وكانت بيت حانون أولى المناطق التي دخلها جيش الاحتلال بداية التوغل البري على غزة في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
هاجس يومي
من العائلة الكبيرة ذاتها، يعيش الشاب معتز الكفارنة هاجسا يوميا، إذ لم يعُد يملك سوى شقة في بيت الأسرة، ولا يعلم إن كانت ما تزال قائمة. ويشاهد مقاطع مصورة من جيش الاحتلال تظهر عمليات تفجير ضخمة ودمارا غير مسبوق.
ويقول معتز للجزيرة نت “بيت حانون لم تعد على الخريطة، غابت تلك المنطقة العظيمة التي يتميز سكانها بعلاقات اجتماعية مترابطة، لم يتغير فيها دفء الناس ولا حبهم لبعضهم البعض”. ورغم ذلك يرفض الشاب فكرة الاستقرار في أي مكان آخر، مضيفا بأسى “نحن مثل السمك، لا نستطيع أن نعيش خارج بيت حانون”.
ويُقدّر أن أكثر من 80 ألف نسمة هم سكان المدينة باتوا نازحين، موزعين بين الخيام والمراكز العشوائية، مثله تماما.
في مبنى متهالك آيل للسقوط غرب غزة، أقام الشقيقان فايز وفضل البسيوني بعد نزوحهما، أما شقيقهما رفيق فيسكن في أحد مراكز الإيواء. وكان المبنى المهجور الذي يقيم فيه فايز فيما مضى مبنى إداريا لأحد النوادي الرياضية، وبسبب القصف الإسرائيلي تشققت الجدران، وانهار جزء من السقف، وتتدلى بعض الحجارة، وتوشك أن تسقط فوق رؤوس أبنائه وأحفاده.
ويقول فايز الموظف المتقاعد، واصفا كيف انقلبت حياة أهل بيت حانون من “عزّ وجاه” إلى تشتت ونزوح “كنا نملك بيتا من 4 طوابق، بمساحة 450 مترا. وقد دُمّر بالكامل، تعبنا عليه حجرا حجرا. واليوم لا نملك شيئا”. ويضيف “بيت حانون مُسحت بالكامل، فوق الأرض وتحتها. هكذا قالوا في الإعلام الإسرائيلي، نتابع هذه الأخبار بحسرة وغصة”.
ويلفت إلى أن أهالي المدينة يعيشون الآن إما في خيام على الشاطئ أو في منطقة الجامعات (غرب مدينة غزة) وكلهم يحملون الشعور نفسه، صدمة وحزن وإصرار على العودة.
مدينة التميز
بدوره، يسترجع أخوه فضل طفولته ومراحل دراسته، ويشير إلى شوارع المدينة القديمة، وبعض أحيائها الشهيرة مثل السكة، والزيتون، وأبو غزالة، والكفارنة، والعزبة. ويستذكر عائلاتها الرئيسية على غرار الكفارنة، والمصري، والزعانين، والبساينة، وحمد، وأبو هربيد، وغيرها.
ويضيف للجزيرة نت “بيت حانون ليست مجرد منطقة، هي ذاكرتنا، منازلنا، مدارسنا، أشجار الحمضيات التي كانت تزين طرقها.. ناسها من أطيب الناس، أوفياء وكرماء وشجعان، محافظون جدا، ترابطهم الاجتماعي استثنائي”. ومع ذلك، يتمسك فضل بالأمل “حتى لو عدنا لخيمة، سنعود ونبنيها من جديد بإذن الله”.
أما رفيق الشقيق الثالث، فلا ينسى أخويه الشهيدين أحمد ومحمد، اللذين قُتلا باجتياحين سابقين، عامي 2001 و2006، للدلالة على أن بيت حانون كانت دائما في مرمى النار، ورغم ذلك فإن أهلها لم يتركوها قط إلا هذه المرة خوفا على أرواح أبنائهم.
ويقطن رفيق بعيدا عن شقيقيه في مركز إيواء، لكنه يشاركهما الخوف ذاته على مدينتهم، والرجاء بالعودة إليها يوما ما.
ويلفت إلى أن الاحتلال، وفي كل عدوان على قطاع غزة، يجتاح المدينة ويهجر سكانها، ويدمر منازلها، ويجرف بساتينها.
ويوضح أن بيت حانون كانت مشهورة تاريخيا بحقول الحمضيات التي دمرها الاحتلال بشكل كامل خلال الأعوام الماضية. ويضيف مشيدا بمسقط رأسه “بيت حانون فيها أعلى نسبة تعليم، وأقل نسبة أمية في القطاع وربما في فلسطين، النساء تعلّمن، والرجال أكملوا تعليمهم رغم كل شيء”.
ورغم مشاهد الدمار التي تظهر في الفيديوهات، لا يزال رفيق البسيوني، وكل أهالي بيت حانون -الذين تحدثت الجزيرة نت إليهم- يؤمنون بالعودة ويرددون “لن نبيع أرضنا، ولن نتركها، سنعود ونبنيها من جديد، ولو على الركام”.