

– لم يخطر ببال الشابة اليمنية خلود حسن السعيدي، حين ارتبطت في سبتمبر 2021 بالعماني سيف حمدان وهي لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها، أن الزواج الذي تمّ عبر وسيط يمني، سينقلب إلى مأساة امتدت لسنوات، فلم يكن لأسرة السعيدي أي معرفة بالمتقدم إلى ابنتهم سوى ما نقل إليهم من مديح، وسرعان ما تم الارتباط، ليتبين بعدها أنه لم يستوفِ الإجراءات القانونية المطلوبة استناداً إلى “لائحة الزواج المختلط” التي ينظمها القرار رقم 263 لعام 2005 الصادر عن وزارة الداخلية اليمنية (التابعة للحكومة الشرعية)، والمطبقة بالتنسيق مع وزارة العدل والجهات القضائية المختصة، إذ تلزم اليمني أو اليمنية حال الاقتران بأجنبي تقديم طلب للحصول على موافقة وزير الداخلية بوصفها شرطاً أساسياً، وكما يُظهر عقد الزواج الذي حصل عليه “العربي الجديد” فالأمين الشرعي المخوّل بتحرير وتوثيق العقود وتصرفات الأحوال الشخصية، عقد القران لحالة زواج مختلط لم تستوف الشروط، وهو ما تؤكده رواية الأسرة التي اكتشفت أن الوسيط دفع مبلغاً مالياً رشوةً للأمين الشرعي مقابل ذلك، بعد إيهامهم بأن كل المعاملات القانونية قد أُنجزت وفق المطلوب.
- كيف يخالف الأمناء الشرعيون القانون؟
ورغم ما تكشفه هذه البيانات من تصاعد في عدد حالات زواج اليمنيات بأجانب على نحو غير مسبوق، إلا أن الصادم في ما يكشفه القاضي باعباد قائلاً إن “أرقام الموافقات المسجلة لدى وزارة العدل، لا تعكس حجم الظاهرة الحقيقي لأنها لم تشمل عدد عقود أبرمها أمناء شرعيون بدون موافقة الداخلية وبالتالي لم توثق في سجل الوزارة بعْد، كما هو الحال في ثلاثة عقود زواج حصل عليها “العربي الجديد”، ويستدرك باعباد: “ما خفي أعظم، ولم يُقدّم حتى الآن أي أمين شرعي إلى القضاء رغم هذه التجاوزات الواضحة”.
إذ تشكل تجارة مربحة لما يتقاضونه من مبالغ في ضوء ما تؤكده والدة السعيدي موضحة أن الأمين الشرعي الذي يحتفظ العربي الجديد باسمه، أبرم عقد الزواج لابنتها مقابل 400 ريال عماني (1040 دولاراً أميركياً)، وهو مبلغ كبير مقارنة بالأجر الذي يتقاضاه مقابل إتمام عقد الزواج والمقرر وفق القانون رقم 7 لعام 2010 بشأن التوثيق والبالغ 400 ريال يمني فقط (دولار ونصف).
وتُعد اليمنيات عرضة لفقدان كافة حقوقهن بسبب هذه الزيجات غير المسجلة رسمياً والتي تعرّفها المحامية المترافعة أمام المحكمة العليا وعضو المجموعة النسوية الاستشارية الفنية للمبعوث الأممي في اليمن عفراء حريري بأنها: “عقود زواج شرعية لكنها غير موثقة كونها غير مستوفية جميعَ الأركان الخاصة بالزواج الشرعي باستثناء توثيقه بالمحكمة أو سجل وزارة العدل، وهو ما يجعلها ناقصة وغير معترف بها وقد تفقد الزوجة بسببها جميع الحقوق الخاصة بها لعدم وجود ما يثبت الزواج رسمياً”. مشيرة إلى أن ولي أمر الفتاة أو المرأة الذي يقبل بهذا الزواج لم يحفظ لمن تولى زواجها حقوقها وأبناءها مستقبلاً، مثل الحضانة والنسب والميراث والنفقة، لذلك لا تجد من ينصفها أو ينصف أطفالها مما قد يقع عليهم من ظلم إذا حدث طلاق أو نزاع بينها وبين زوجها، كما هو حال السعيدي.
و”يتحايل الأمناء الشرعيون على موافقة وزارة الداخلية، عبر تثبيت العقود في سجّل وزارة العدل بأثر رجعي أي في تاريخ سابق، بالاستعانة بسماسرة ووساطات داخل الجهاز الإداري”، بحسب القاضي باعباد والذي يُجمل الخطوات القانونية الرسمية لتوثيق الزواج المختلط، بتقديم طلب رسمي من الولي أو أحد طرفي العقد إلى وزارة العدل، مرفقاً بالوثائق التالية: موافقة وزارة الداخلية اليمنية، وموافقة وزارة الداخلية للدولة الأخرى إذا كان أحد الطرفين سعودياً أو كويتياً، وصور جوازات السفر للطرفين، وتحديد المحكمة التي سيُعقد فيها الزواج، بعد ذلك يُحيل قطاع المحاكم والتوثيق الطلب إلى المحكمة المعنية، والتي توجّه بدورها رئيس قلم التوثيق لإصدار تكليف قانوني إلى الأمين الشرعي بعقد الزواج، مؤكداً أن الحصول على موافقة وزير الداخلية هي الخطوة الأولى.- رشى لنيل موافقة وزارة الداخلية
تتقاطع عقود الزواج المخالفة التي حصل عليها “العربي الجديد”، في تجاوز شرط فرق العمر المنصوص عليه في لائحة الزواج المختلط بأن لا يتعدى 20 عاماً. في حالة “صباح” (يكتفي العربي الجديد بذكر الاسم الأول بحسب طلب السيدات)، يكبرها زوجها بـ 26 عاماً، وأسماء بفارق 32 عاماً، وعيشة بـ31 عاماً.
والفارق بين عقود الزواج الخاصة بالسعيدي وأسماء وعيشة أنها تمت بواسطة أمناء شرعيين دون الحصول على موافقة وزارة الداخلية من الأصل، وكذلك يغضّون النظر عن عدم استيفاء الزواج للوثائق المطلوبة التي تشمل أيضاً شهادة صحية للزوج الأجنبي.لكن الغريب أنه في حالة صباح يحمل عقد الزواج الخاص بها ملاحظة قانونية تشير إلى إبرامه بموجب مذكرتين أولاهما صادرة من وزارة الداخلية بعد الموافقة على طلب الزواج، والأخرى صادرة عن وزارة العدل التي وجّهت للأمين الشرعي لإبرام العقد، ما يعني أن الداخلية وافقت على زواج مخالف لأحد الشروط.
عقد أمناء شرعيون قران اليمنيتين أسماء وعيشة رغم عدم حصولهن على موافقة وزير الداخلية وتجاوز فرق العمر المقرر
ويتضح ذلك باعتراف حالات قابلتهن معدة التحقيق، أوضحن أن العقد يتم توثيقه بشكل رسمي عبر لجوئهن إلى سماسرة لتسهيل إجراءات الزواج المخالف للقانون، مقابل مبالغ مالية، ولإثبات المخالفات تواصلت معدّة التحقيق مع أحد الوسطاء بمساعدة عدد من الأزواج الذين سبق وتعاملوا معه، وحصلت على اتصال مباشر به، وفي مكالمة مسجلة، قدّمت نفسها على أنها ترغب في تمرير معاملتين مخالفَتين: الأولى لزواج يمنية من عُماني يكبرها بـ37 عاماً، والثانية ليمنية من تركي لا يملك شهادة حسن سيرة وسلوك، وجاء رد الوسيط واضحاً: “مخالفة العمر تمشي باستثناء، لكن شهادة السيرة والسلوك ضرورية ما نقدر نتحايل عليها، يمكن يكون عنده سوابق جرمية”، وطلب الوسيط تجهيز الطلب والوثائق أولاً، قائلاً عند سؤاله عن التكلفة المتوقعة: “هذا في علم الغيب حسب الموظفين اللي بيسهّلوا الأمور”.
والصادم أن السمسار الذي فاوضته معدة التحقيق استطاع بعلاقاته تمرير ما لا يقل عن 500 معاملة زواج ليمنيات بأجانب نالت موافقة الداخلية دون استيفاء الشروط، وكان أكثرها بين عامي 2020 و2023، بحسب مصدر طلب التحفظ على اسمه يعمل في قسم الزواج المختلط بوزارة العدل، شهد بحكم عمله المتعلق بتوثيق هذه العقود على نشاط السمسار ذاته. ودور السماسرة يؤكده موظف آخر يعمل في مكتب وزير الداخلية بمدينة سيئون في محافظة حضرموت جنوب شرق البلاد، رفض الكشف عن هويته الحقيقية واكتفى باسم مستعار، ناجي نجيب، قائلا : “هؤلاء السماسرة لا يهمهم فارق سن، ولا مرض، ولا حتى سوء خلق، المهم ما سيدفعه الزوج أو ولي أمر الزوجة”، ويوضح أن المبالغ التي تُطلب من الأزواج تتراوح بين 30 ألف ريال يمني ( 12 دولاراً وفق سعر الصرف الرسمي) في الحالات البسيطة، وتصل إلى مليوني ريال يمني (783 دولارا) في حالات معقدة.
- في مواجهة الجهات المسؤولة
أرسلت معدة التحقيق صورة عن عقد زواج اليمنية صباح إلى نائب مدير عام مكتب وزير الداخلية في عدن العقيد صالح باسمير، نظراً للموافقة على طلبها المقدم إلى وزارة الداخلية في مايو 2024 من أجل إتمام زواجها من مواطن عماني، وبحسب ما يبينه الطلب الذي حصل عليه “العربي الجديد” وُجه الطلب إلى رئيس مصلحة الهجرة والجوازات لاستكمال إجراءات الزواج القانونية بناء على موافقة الداخلية، ولم ينف باسمير وجود الموافقة بل أقرّ أنه وقع على الطلب، لكنه ألقى بالمسؤولية على مصلحة الهجرة والجوازات، متذرعاً أن مكتب الشؤون القانونية هناك هو المسؤول عن فحص الوثائق قائلاً: “إن حدثت أي حالة رشوة فهي من جانبهم”، مؤكداً التزامهم بالنظام والقانون، وأنه بعث برسالة فورية إلى المصلحة تتضمن العقد وموافقته عليه، وتعهّد باتخاذ العقوبات اللازمة بحق من تثبت مخالفته، ورغم الإشارة إلى تجاوزات قانونية كبيرة تحدث في إطار الزواج المختلط خلال الحديث معه اكتفى بالقول أن مكافحة الرشاوى والتجاوزات ستنتهي بمجرد العمل بنظام موافقات الزواج الإلكتروني الذي تطوره الوزارة.
موافقة وزير الداخلية على طلب زواج رغم مخالفة شرط الفارق العمري (العربي الجديد)
ما جاء به باسمير، يدحضه مصدر في مصلحة الهجرة والجوازات طلب التحفظ على اسمه كونه غير مخول بالتواصل مع وسائل الإعلام، قائلاً لـ”العربي الجديد”، إن المصلحة مسؤولة عن إتمام الإجراءات بناء على توجيهات الداخلية فقط. ويوضح الدكتور فيصل ملهي، نائب مدير الشؤون القانونية في مصلحة الهجرة والجوازات بعدن، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن أي موظف يُشتبه في تلقيه رشوة يُفصل من عمله كإجراء أولي، ثم يُحال إلى المساءلة الإدارية، وفي حال ثبوت التهمة عليه، تُطبق بحقه عقوبة الرشوة المنصوص عليها في المادة 156 من قانون الجرائم والعقوبات اليمني رقم (12) لعام 1994 التي تنص على أن: “كل شخص عيّن لقبض الرشوة دون أن تتوفر فيه صفة الراشي، إذا كان عالماً عند قبضها بأنها رشوة، يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات”، مشيراً إلى أنه “لم تُسجّل حتى الآن أي حالة عوقب فيها أحد العاملين في وزارة الداخلية بعقوبة الرشوة”.
وفي ما يتعلق بمخالفات الأمناء الشرعيين الذين أجروا عقود زواج بالمخالفة للقانون، يؤكد القاضي باعباد، أنه “يفترض أن يُحال الأمين الشرعي المخالف إلى المجلس التأديبي، ويُوقف عن العمل مدة ستة أشهر، وقد تصل العقوبة إلى سحب رخصته بشكل نهائي”. ووسط تبادل الاتهامات بين الجهات المسؤولة، يشهد عمار مسعد (اسم مستعار لموظف يعمل في مكتب الداخلية بعدن) بأنه رافق ولي اليمنية أسماء وزوجها خلال إنجازهم إجراءات عقد القران واضطروا لتقديم رشوة بالدولار في مكتب وزير الداخلية لضمان الموافقة على الطلب، وتلتها رشوة أخرى بالريال العماني للشؤون القانونية في مصلحة الهجرة والجوازات قائلاً: “كل توقيع على ورقة مخالفة يمكن أن تمشي برشوة وهكذا إلى أن تنتهي المعاملة”.
عن “العربي الجديد”