براك في بيروت.. لهجة مختلفة ورسائل ضاغطة |


روكب اليوم

بيروت- لم تكن الزيارة الثالثة للموفد الأميركي توم براك إلى بيروت كسابقاتها، فهذه المرة، حمل الرجل لهجة حازمة، واختار توقيتًا بالغ الحساسية، ليعلن بوضوح أن واشنطن لم تعد في مرحلة استكشاف المواقف، بل انتقلت لممارسة ضغط مباشر على الدولة اللبنانية، واضعة سلاح حزب الله في صلب أولوياتها.

وفي ظل تصاعد التوتر الميداني جنوبًا، واستمرار الغارات الإسرائيلية على مناطق لبنانية، جاءت زيارة براك لتكرّس تحولًا في المقاربة الأميركية؛ لا التزامات بوقف إطلاق النار، ولا دعما اقتصاديا أو سياسيا، ما لم تُتخذ خطوات ملموسة تجاه ما تصفه واشنطن بـ”جوهر الأزمة”، أي سلاح حزب الله وعلاقته بمعادلة الاستقرار على الحدود.

هذا التحول يشي بتضييق هامش المناورة لدى السلطات اللبنانية، ويضعها في مفترق خيارات صعبة، في وقت تتزايد فيه الضغوط الاقتصادية والسياسية، داخليًا وخارجيًا، فالمعادلة التي ترسمها واشنطن لا تقف عند حدود المواجهة مع حزب الله، بل تشمل أيضًا مستقبل العلاقة مع المجتمع الدولي، ومسار أي تسوية محتملة جنوبًا.

وساطة متعثرة

يؤكد الكاتب والمحلل السياسي يوسف دياب، للجزيرة نت، أن زيارة المبعوث الأميركي توم براك إلى بيروت حملت نبرة حازمة غير مألوفة، تجلّت بوضوح في تصريحاته من السرايا الحكومية عقب لقائه رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام، حيث شدد على أن سلاح حزب الله “قضية داخلية لبنانية”، وهو ما اعتبره دياب بمثابة إعلان تخلي واشنطن عن التدخل المباشر في هذا الملف، وتركه للبنانيين وحدهم لتقرير مصيره.

في المقابل، لفت دياب إلى أن براك ألمح إلى عدم قدرة بلاده على الضغط على إسرائيل لاتخاذ خطوات محددة، ما قد يُفسَّر كتمهيد لسحب واشنطن دورها كوسيط في ملف وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، في حال استمر غياب المبادرة اللبنانية.

وأضاف أن اللافت في كلام براك هو نفيه قدرة واشنطن على تقديم ضمانات أمنية للبنان، وهو ما يتناقض -في رأيه- مع الوقائع الميدانية التي أثبتت قدرة أميركا على لجم إسرائيل حين أرادت، كما حصل في فترات سابقة، سواء في المواجهة مع إيران أو في الضربات على دمشق.

ويعتقد دياب، أن براك حمل رسالة واضحة فحواها أن الرد اللبناني على الورقة الأميركية لم يكن على مستوى التوقعات، فقد خلا من أي خريطة طريق، سواء من حيث جدول زمني لسحب السلاح غير الشرعي، أو من حيث آلية التنفيذ، لا سيما ما يتعلق بسلاح حزب الله والفصائل الفلسطينية.

ويشير إلى أن الإدارة الأميركية لمّحت سابقًا إلى أن تقاعس لبنان عن تنفيذ القرار 1559، خاصة ما يتعلق بنزع السلاح في كامل الأراضي اللبنانية، قد يدفع بإسرائيل إلى تولي هذه المهمة بنفسها.

لقاء المبعوث الأميركي توم براك برئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام حمل معانيَ كثيرة (أسوشيتد برس)

توقع الأسوأ

ومع استمرار القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان، يرى دياب أن الصورة تزداد قتامة، خصوصًا في ظل توقعات بتصعيد عسكري قد يفوق ما جرى خلال حرب 2024، وربما يحمل ملامح حرب شاملة.

ويضيف أن المخاوف تتزايد من أن تكون واشنطن قد رفعت يدها نهائيًا عن الملف اللبناني، تاركة لإسرائيل هامشًا واسعًا للتحرك، ليس فقط ضد حزب الله، بل ضد مؤسسات الدولة اللبنانية برمتها، في ما يُعد تحميلًا مباشرًا للسلطات اللبنانية مسؤولية أي فشل في تنفيذ بنود وقف إطلاق النار، وعلى رأسها سحب السلاح غير الشرعي.

ويُحذِّر دياب من أن أي تصعيد محتمل قد يتخطى ما شهدته البلاد في حرب يوليو/تموز 2006، وقد يشمل حصارًا شاملًا، من إغلاق مطار بيروت، إلى تعطيل المرافئ وقطع الحدود مع سوريا، وهو ما يثير قلقًا واسعًا في الأوساط السياسية والشعبية على السواء.

كما يشير إلى معلومات تفيد برفض إسرائيل المقترح اللبناني الذي حمله رئيس مجلس النواب نبيه بري، ويتضمن مهلة زمنية لوقف الانتهاكات الإسرائيلية مقابل نقاش لبناني داخلي في إستراتيجية وطنية للأمن.

لكن رغم قتامة المشهد، يختتم دياب: إن الأمل لا يزال قائمًا في ألّا يعود براك خاليَ الوفاض، وأن يتمكن لبنان من تفادي سيناريوهات التصعيد التي تُرسم في الأفق والتي قد تُفرض عليه بالقوة.

ضغوط مبطّنة

من جهته، يرى الباحث والكاتب السياسي حسن شقير، في حديثه للجزيرة نت، أن زيارة براك إلى بيروت، وإن خلت من خطاب التهديد العلني، حملت في طيّاتها رسائل ضغط مبطّنة، وسط تحذيرات من جهات لبنانية بعينها من تداعيات تجاهل مطلب نزع سلاح حزب الله، رغم تخلّي إسرائيل عن أي التزامات سابقة.

ويشير شقير إلى أن الاتفاق الذي تم سابقًا قضى بخطوات متبادلة؛ تبدأ بانسحاب المقاومة من الحدود، على أن يُقابل ذلك انسحاب اسرائيلي ووقف الاعتداءات، والإفراج عن الأسرى، والشروع بإعادة الإعمار. لكن حتى اليوم، لم تنفّذ تل أبيب أيًا من تلك الالتزامات، في ظل صمت دولي وعجز الراعي الأميركي عن فرض توازن حقيقي في التطبيق.

ورغم امتناع براك عن التلويح بالعقوبات أو استخدام لهجة الحرب، فإن إعلانه “رغبة بلاده في تفعيل الاتفاق” بدا لافتًا، لا سيما وأن واشنطن نفسها سبق أن تراجعت عن دورها كضامن، ولم تقدم أي ضمانات ملموسة لتنفيذ الاتفاقات المعلّقة.

وبحسب شقير، فإن المطلوب من لبنان الرسمي موقف أكثر حزمًا ووضوحًا، يقوم على مبدأ أساسي: لا يمكن الحديث عن خرائط طريق جديدة أو إجراءات إضافية في جنوب الليطاني تحديدا، قبل التزام إسرائيلي واضح بثلاثة استحقاقات أساسية تُجمع عليها الدولة اللبنانية، وهي الانسحاب الكامل، والإفراج عن الأسرى، ووقف الاعتداءات على الجنوب.

لبنانيون: إسرائيل لم تلتزم باتفاق وقف إطلاق النار والانسحاب من الجنوب (الجيش الإسرائيلي)

ترجمة للتصريحات

ويلفت شقير إلى تصريحات براك عقب لقائه بري، والتي وصف فيها الاجتماع بـ”الممتاز”، وأكد حرص بلاده على “الاستقرار”. معتبرا أن هذا الكلام، في رأيه، يحتاج إلى ترجمة فعلية، لأن الاستقرار لا يُبنى من طرف واحد، بل يتطلب التزامًا إسرائيليًا جديًا بوقف التصعيد وتنفيذ البنود المجمدة.

ويطرح شقير تساؤلًا جوهريًا، ما إذا كانت الإيجابية التي تحدث عنها براك تعبّر فعلًا عن رغبة أميركية في التوصل إلى تسوية متوازنة؟ أم أنها مجرد غطاء دبلوماسي لضغوط أكبر في ملف نزع السلاح؟

وإذا كانت واشنطن -حسب شقير- تبحث عن طرح واقعي وقابل للتنفيذ، عندها يمكن مناقشة أي خريطة طريق، شرط أن تكون متكافئة وعادلة، مضيفا “أما إذا كان الهدف الوحيد هو نزع سلاح المقاومة، وترك بقية البنود إلى زمن غير معلوم، فذلك مسار فاشل منذ البداية، بل وقد يُفجر الوضع في الجنوب، بما لا يخدم أحدًا؛ لا لبنان، ولا إسرائيل، ولا حتى أميركا”.

ويختتم شقير: “إذا كانت واشنطن جادة في سعيها نحو الاستقرار، فعليها إعادة ضبط مقاربتها بالكامل. فلبنان لا يُدار بالإملاءات، والاستقرار لا يتحقق بالضغط الأُحادي، بل باحترام الالتزامات المتبادلة، والاعتراف بأن الجنوب تحكمه توازنات دقيقة من القوة والمصالح، لا التهديدات الخفية”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com
Enable Notifications OK No thanks