خريطة الموت في غزة.. كيف يحول الاحتلال ملاذ المدنيين إلى مصيدة؟ |


روكب اليوم

في حين يروّج الاحتلال الإسرائيلي لخريطة “منطقة إنسانية” في جنوب قطاع غزة، تكشف صور الأقمار الصناعية وبيانات النزوح أن المساحة المعلن عنها وهمية ولا تكفي لاستيعاب مئات آلاف النازحين، وتحولت إلى بؤرة اختناق تهدد حياة المدنيين بدل حمايتهم.

فلسطينيون نازحون فارّون من مدينة غزة إلى مخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة (الفرنسية)

تكدس السكان تحت القصف

وتعالت أصوات القصف فوق صرخات المدنيين النازحين في شمال غزة، حيث تكدس أكثر من مليون فلسطيني في مدينة تتحول يوما بعد يوم إلى ركام.

انهارت الأبراج، مُحيت المخيمات، وتعرضت مراكز الإيواء للقصف، لتتشكل خريطة جديدة لا تُرسم بالصدفة، بل وفق خطة لإعادة تشكيل المشهد السكاني عبر نزوح قسري متدرج.

فلسطينيون يركضون بعد انهيار برج مشتهى المكون من 15 طابقا بعد تعرضه لغارة جوية إسرائيلية في مدينة غزة (رويترز)

وأشارت صور الأقمار الصناعية وبيانات النزوح وشهادات الميدان إلى خيط واحد يربط بين التدمير الممنهج ودفع السكان نحو الجنوب، حيث روّج الاحتلال لما سماه “مناطق إنسانية”، بينما هي في الواقع بؤر اختناق ومعاناة.

تدمير ممنهج للبنية العمرانية

وأظهرت صور الأقمار الصناعية الصادرة عن مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية (يونوسات) ارتفاع عدد المباني المدمرة شمال القطاع إلى 42 ألفا و470 مبنى حتى 8 يوليو/تموز 2025، مقارنة بـ33 ألفا و837 مبنى في 25 فبراير/شباط 2025.

وعكس هذا الفارق، الذي يقارب 9 آلاف مبنى خلال أقل من 5 أشهر، مرحلة جديدة من العمليات الإسرائيلية، حيث أصبح الاستهداف ممنهجا للكتلة العمرانية بهدف دفع السكان قسرا نحو الجنوب، ضمن أشبه بـ”الأرض المحروقة”.

إخلاء قسري تحت النار

وفي غزة وشمالها يسكن أكثر من 1.3 مليون نسمة، بينهم نحو 398 ألفا من محافظة شمال غزة نزح معظمهم إلى غرب المدينة، إضافة إلى أكثر من 914 ألفا من سكان محافظة غزة، بينهم نحو 300 ألف اضطروا لترك الأحياء الشرقية نحو وسط المدينة وغربها.

لكن هذا النزوح لم يكن اختيارا طوعيا، بل وقع تحت القصف والدمار. وبين مارس/آذار وأغسطس/آب 2025، نفذت قوات الاحتلال عمليات إخلاء قسري استهدفت نحو 140 مخيما ومركز إيواء في شمال غزة، إلى جانب أحياء التفاح والشجاعية شرق المدينة وحي الزيتون جنوبها.

وأظهرت صور الأقمار الصناعية لمخيمات النازحين في حي الزيتون بين 1 أغسطس/آب و1 سبتمبر/أيلول 2025 اختفاء المخيمات بالكامل عقب العمليات العسكرية المكثفة، في مشهد لخص التهجير القسري الممنهج الذي أفرغ الأحياء من سكانها بصمت وأعاد رسم الخريطة السكانية بالقوة.

نزوح داخلي وتكدس في المناطق الغربية

وكشف تحليل صور الأقمار الصناعية من 4 يوليو/تموز إلى 4 سبتمبر/أيلول 2025 عن حركة نزوح كثيفة نحو غرب المدينة ومخيم جباليا، حيث انتشرت خيام جديدة على مساحات ضيقة. وأدى ذلك إلى تكدس عشرات الآلاف من المدنيين في ظروف معيشية قاسية وخطر الاستهداف المباشر.

وتشير الكثافة البشرية المتزايدة في وسط مدينة غزة وغربها إلى أن أي عملية عسكرية إسرائيلية جديدة ستترك أثرا مضاعفا على المدنيين، بعد أن تحولت المدينة إلى بؤرة نزوح داخلي متواصل.

استهداف المباني السكنية والملاذات الأخيرة

وصعّد الاحتلال، في إطار التهجير القسري، استهداف المباني السكنية العالية التي باتت ملاذا لأسر فلسطينية.

وبين 2 و15 سبتمبر/أيلول الجاري، دمّر الاحتلال 22 مبنى سكنيا بالكامل، شملت 8 عمارات و14 برجا يزيد ارتفاعها عن 5 طوابق، بعضها تجاوز 10 طوابق، مما أدى إلى تهجير مئات الأسر دفعة واحدة.

خريطة لـ22 برجا ومبنى تعرضت للاستهداف بغارات جوية إسرائيلية في مدينة غزة (الجزيرة)

وأظهرت صور الأقمار الصناعية من 2 سبتمبر/أيلول 2025 تجمع خيام نازحين حول برج الرؤيا غرب غزة، قبل أن يُستهدف المبنى في 9 سبتمبر/أيلول 2025، مما أجبر العائلات المحيطة على النزوح مرة أخرى.

خيام النازحين في محيط برج الرؤيا غرب مدينة غزة 2 سبتمبر/أيلول 2025 (بلانت)

ونفت إدارة أحد الأبراج المستهدفة إعلان الاحتلال عن استخدامه “كبنية تحتية للمقاومة”، مؤكدة أن المبنى كان خاليا من أي تجهيزات أمنية ويُستخدم فقط كمأوى للنازحين.

الخريطة الإنسانية.. وهم يفضح نفسه

ونشر الاحتلال في 6 سبتمبر/أيلول 2025 خريطة لما سماه “منطقة إنسانية” جنوب غزة، داعيا سكان شمال ووسط القطاع للنزوح إليها.

لكن تحليل صور الأقمار الصناعية بتاريخ 5 سبتمبر/أيلول 2025 كشف أن المساحة الإجمالية للخريطة تبلغ نحو 43 كيلومترا مربعا، منها 17 كيلومترا مشغولة بخيام نازحين وأراضٍ زراعية وأحياء مدمرة، لتتبقى نحو 10 كيلومترات مربعة فقط صالحة نسبيا لإقامة مخيمات جديدة.

ولم تُظهر المساحة المعلنة سوى شريط ضيق شديد لا يكفي لمئات آلاف المدنيين، مما حوّل “المنطقة الإنسانية” إلى أداة دعائية لشرعنة التهجير القسري بدل توفير حماية أو بيئة إنسانية آمنة.

وحتى مع استمرار النزوح تحت القصف، كشفت صور الأقمار الصناعية عن تكدس خيام جديدة في دير البلح وخان يونس، أبرزها غرب مدينة حمد، حيث بلغت مساحة انتشارها نحو 1.25 كيلومتر مربع فقط بعد 5 سبتمبر/أيلول 2025، محوّلة الخريطة الإنسانية إلى مصيدة اكتظاظ تحت القصف.

وتحولت خريطة “المنطقة الإنسانية” من وعد بالحماية إلى فخ للاكتظاظ والمعاناة، في سياق تهجير ممنهج استهدفت المدنيين في غزة، وكشفت عن استخدام الاحتلال للخريطة كأداة دعائية لتسويق التهجير القسري كخيار “إنساني”، في حين أن الواقع على الأرض يروي قصة الموت والاختناق اليومي لملايين المدنيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com
Enable Notifications OK No thanks