

روكب اليوم
أنقرة- منح مجلس الأمن الاتحادي الألماني الضوء الأخضر لتصدير 40 مقاتلة متطورة من طراز “يوروفايتر تايفون” إلى تركيا، في خطوة أثارت اهتماما واسعا باعتبارها تحولا كبيرا في موقف برلين بعد أكثر من عام ونصف العام على تقديم أنقرة طلب الشراء.
ويأتي القرار لينهي فترة من التردد الألماني لأسباب سياسية، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التعاون الدفاعي بين البلدين، وسط تساؤلات عن دوافع هذا التحول وتداعياته على التوازنات الإقليمية.
وبالتوازي مع ذلك، شهدت إسطنبول توقيع مذكرة تفاهم بين وزير الدفاع يشار غولر ونظيره البريطاني جون هيلي -على هامش معرض الصناعات الدفاعية الدولي (آيدف 2025)- تمهد الطريق أمام انضمام تركيا رسميا إلى نادي مشغلي مقاتلات “تايفون”.
جهود مثمرة
واعتبرت وزارة الدفاع التركية الاتفاق “خطوة إيجابية” نحو إتمام الترتيبات النهائية، بينما أكد الوزيران عزمهما تسريع الإجراءات اللازمة لإنجاز الصفقة. ومن شأن هذه المذكرة أن تعزز التعاون الفني والتدريبي بين الجانبين، وتفتح آفاقا لشراكة صناعية أعمق في المجال الدفاعي.
يُذكر أن مقاتلات “يوروفايتر تايفون” تنتج من خلال تحالف صناعي أوروبي تقوده شركات كبرى مثل “إيرباص” الألمانية، و”بي إيه إي سيستمز” البريطانية و”ليوناردو” الإيطالية، مما يستلزم موافقة جماعية من الدول الأربع المصنعة لإنجاز الصفقة. وقد التزمت الوزارات الألمانية المعنية الصمت بشأن التفاصيل، في ظل سرية أعمال مجلس الأمن الاتحادي وانعقاده خلف أبواب مغلقة.
واتجهت تركيا إلى طلب مقاتلات “يوروفايتر تايفون” عقب تعثر مساعيها للحصول على طائرات غربية متطورة، بعدما تم استبعادها من برنامج المقاتلة الأميركية الشبح “إف-35” عام 2019 بسبب شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس-400”.
وفي مارس/آذار 2023، تقدمت أنقرة رسميا بطلب إلى الدول الأربع المشاركة في تصنيع “يوروفايتر” للحصول على 40 طائرة، في إطار جهودها لتحديث أسطولها الجوي وتعزيز قدراتها الدفاعية.
لكن الحكومة الألمانية السابقة وقفت ضد الصفقة، مبررة موقفها بدواع سياسية تتعلق بملف حقوق الإنسان والتوتر القائم في العلاقات التركية الأوروبية.
وعلى مدار الأشهر التالية، كثَّفت لندن جهودها لدعم أنقرة، ومارست ضغوطا دبلوماسية مكثفة على برلين لتجاوز العقبات السياسية والوصول إلى تفاهم مشترك.
وفي هذا السياق، ذكرت مجلة “دير شبيغل” الألمانية أن تركيا قدمت التزاما بعدم استخدام هذه المقاتلات ضد أي دولة عضو بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي خطوة اعتبرت رسالة طمأنة للدول المجاورة، وفي مقدمتها اليونان التي تم إطلاعها مسبقا على تفاصيل الصفقة ولم تبد أي اعتراضات علنية.
مكاسب وأبعاد
وتشكل صفقة مقاتلات “يوروفايتر تايفون” دفعة نوعية لقوة سلاح الجو التركي، باعتبارها واحدة من أحدث المقاتلات متعددة المهام في العالم، حيث تجمع بين تقنيات أوروبية متقدمة وقدرات قتالية عالية تشمل أنظمة طيران إلكترونية حديثة وصواريخ جو جو بعيدة المدى، فضلا عن إمكانيات تنفيذ ضربات أرضية دقيقة.
وتأتي الصفقة في ظل سباق تسلح إقليمي متسارع، إذ تسعى أنقرة لتحديث قدراتها الجوية لموازنة تحركات اليونان التي عزَّزت مؤخرا أسطولها بمقاتلات فرنسية من طراز “رافال” وتفاوض للحصول على مقاتلات شبح أميركية من طراز “إف-35”.
ورغم امتلاك تركيا منظومات دفاعية متطورة، مثل الطائرات المسيّرة الهجومية “بيرقدار” ومنظومة “إس-400” الروسية، فإن حاجتها لمقاتلات حديثة لتأمين التفوق الجوي باتت أكثر إلحاحا في ظل التحديات الأمنية الراهنة.
وتُعد الصفقة من أضخم عمليات التسليح التي أبرمتها تركيا السنوات الأخيرة، إذ قدرت قيمتها بنحو 5.6 مليارات دولار وفق صحيفة “وول ستريت جورنال” على أن يتحدد الرقم النهائي بناء على تجهيزات الطائرات وبرامج التدريب والدعم اللوجستي المرافق.
ورغم التكلفة المرتفعة، تراها أنقرة استثمارا إستراتيجيا طويل الأمد يعزز قدراتها الردعية، ويحافظ على تفوقها الجوي في منطقة تشهد سباقا عسكريا محتدما.
تعزيز الردع
وفي السياق، يرى المحلل السياسي أحمد ضياء جوكلاب أن سعي تركيا لاقتناء مقاتلات “يوروفايتر تايفون” يتجاوز كونه مجرد صفقة تسليحية تقنية، فهو يمثل خطوة إستراتيجية متعددة الأبعاد.
ويعتقد أنه -رغم التقدم الذي أحرزته أنقرة في مشروع مقاتلتها الوطنية “قآن” ويعد تحولا نوعيا لصناعاتها الدفاعية- فإن شراء “يوروفايتر” يشكل حلا مرحليًا بالغ الأهمية للحفاظ على قدرة الردع الجوي حتى دخول “قآن” الخدمة التشغيلية الكاملة.
ويوضح جوكلاب -للجزيرة نت- أن هذه المقاتلات ستمنح تركيا منصة عالية الأداء تضمن لها التفوق الجوي على المدى القصير، وتحدّ من أي ثغرات أمنية محتملة خلال فترة الانتقال نحو الاعتماد على المقاتلة المحلية.
وعلى المستوى الإستراتيجي، يشير جوكلاب إلى أن الصفقة تحمل أبعادا دبلوماسية واضحة، إذ يمكن أن تسهم بإعادة صياغة علاقات تركيا مع الغرب وتعزيز مرونتها ضمن موازين القوى. ويرى أن الشراكة الدفاعية مع دول الكونسورتيوم الأوروبي من شأنها تعميق اندماج تركيا تقنيا وسياسيا داخل حلف الناتو.
كما يعتبر أن هذه الخطوة محاولة من أنقرة لسد الفراغ الذي خلَّفه استبعادها من برنامج “إف-35” الأميركي، بما يعزز موقعها داخل التحالف الأطلسي بمقاتلات حديثة ذات منشأ غربي.
ويضيف جوكلاب أن الصفقة قد تحمل أيضا مكاسب لصناعة الدفاع التركية عبر فرص نقل التكنولوجيا وتطوير قدرات الصيانة والبنية التحتية، فضلا عن الخبرات التشغيلية والفنية التي ستنعكس على المراحل التالية من مشروع “قآن”.
ويُنظر إلى انخراط تركيا مجددا في مشروع تسليحي أوروبي بهذا الحجم باعتباره مؤشرا على عودة الثقة المتبادلة، وفتح الباب أمام تعاون أعمق في الصناعات الدفاعية مستقبلا.
وفي السياق، كشف الرئيس رجب طيب أردوغان عن مباحثات جارية مع إسبانيا لتطوير حاملة طائرات متقدمة بشكل مشترك، في امتداد للتعاون القائم مع مدريد لبناء سفينة الهجوم البرمائي “تي سي جي أناضول”.
تعميق الشراكة
من جهتها، ترى الخبيرة في السياسة الخارجية زينب جيزام أوزبينار أن صفقة “يوروفايتر تايفون” تمنح تركيا مكاسب إستراتيجية متعددة المستويات، بالرغم من تطويرها مقاتلة وطنية حديثة.
وبرأيها، فإن استبعاد أنقرة من برنامج “إف-35” الأميركي وتأخر تحديث أسطول “إف-16” دفعاها للبحث عن بدائل تغطي الفراغ العملياتي في المدى القصير، وهو ما توفره “يوروفايتر” بقدراتها المتقدمة في المهام الجوية ضد أهداف برية وجوية، مما يجعلها الخيار الأكثر عقلانية لضمان الردع الفعّال حتى اكتمال مشروع “قآن”.
وتوضح أوزبينار للجزيرة نت أن أهمية الصفقة تتجاوز المجال العسكري، إذ تُعزز انخراط تركيا في الصناعات الدفاعية الأوروبية، كما يمكن أن تعمّق الشراكة الدفاعية بين أنقرة ولندن في سياق مشروع “قآن”.
وتضيف أن هذه الخطوة تنسجم مع رؤية تركيا الإستراتيجية القائمة على تنويع مصادر التسليح وتقليل الاعتماد على مزود واحد، فضلا عن دعم التضامن داخل الناتو.
وترى أوزبينار أن إدخال “يوروفايتر” للخدمة سيمنح تركيا قدرة متقدمة لحماية أجوائها، ويزيد قدرتها على إسقاط قوة إقليمية بمناطق التوتر مثل بحر إيجة وشرق المتوسط، مضيفة أن هذه المقاتلة ستؤدي دورا موازنا حتى تدخل “قآن” الخدمة بالكامل.