
“الأيام” ملاذي الآمن الذي عوضني عن فقدان عملي في الصحافة العسكرية بعد حرب 94 واحتضن مشواري المهني بشغف
“الأيام” كانت مراقبة من نيابة الصحافة ومطبخ النظام الذي كان يريد الاطلاع على محتوى العدد قبل صدوره
هشام وقف شامخًا في ساحات المحاكم يدافع عن المظلومين لا عن نفسه ولم يمت بمرض بل فتكت به الضغوطات وأزهقت روحه كمداعشنا كطاقم تحرير حالة من الاستنزاف النفسي بسبب التهديدات وصالح كان لا شغل له سوى مراقبة “الأيام” لإسكاتها
إرهاصات الاحتجاجات وحركة المتقاعدين العسكريين وانطلاق الحراك أهم مرحلة ساخنة مرت بها “الأيام”
كان لدينا شبكة مراسلين تغطي أرجاء اليمن وكانوا رجالًا يقفون على خط النار
“الأيام” مدرسة صحفية متكاملة احتضنت قامات صحفية منذ تأسيسها
سجلت “الأيام” تاريخًا مهنيًا لم تصل له أي صحيفة يمنية حتى الآن
بساطة غرفة تحرير “الأيام” وأثر إنتاجها أدهش ساسة ووزراء وسفراء أجانب
> يصادف اليوم ذكرى مرور 67 عاما على تأسيس صدور صحيفة “الأيام”، وبهذه المناسبة أجرت الصحيفة حوارا مع نقيب الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين، الذي كان أحد أعمدة “الأيام” البارزين، في التسعينيات الأستاذ عيدروس باحشوان، والذين ساهموا في إشعاعها وتألقها. يستعيد فصولا من مسيرته الصحفية في “الأيام”.
محمد علي باشراحيل
في هذا الحوار يفتح باحشوان أبواب ذاكرته، مستعيدا محطات بارزة من مسيرته الحافلة بالأحداث التي امتدت لأربع عشرة سنة، بدءًا من علاقته بالناشرين هشام وتمام باشراحيل، وتأثير خلفيته في الصحافة العسكرية على أدائه المهني، وصولًا إلى توليه موقع سكرتير تحرير الصحيفة.
عيدروس باحشوان سكرتير تحرير صحيفة “الأيام”
يسلط الحوار الضوء على تفاصيل عمله اليومي داخل غرفة التحرير، كاشفًا عن التحديات التي واجهت الصحيفة في سنوات الشدة، وصمودها في وجه مضايقات نظام صنعاء، والمواقف المفصلية التي واكبت مسيرتها الصحفية.
وفيما يلي نص الحوار الكامل.
< هل كنت على معرفة سابقة بالناشرين هشام وتمام باشراحيل قبل انضمامك إلى صحيفة “الأيام”، وكيف تم التحاقك بالعمل فيها، ومن كان له دور في ذلك؟
– كانت بدايتي مع صحيفة “الأيام” من خلال زياراتي المتكررة لمنتداها الثقافي منذ أوائل التسعينيات، حيث أُتيحت لي أول فرصة للتعرّف على الناشر الأستاذ تمام باشراحيل، أطال الله في عمره، الذي كان يشغل حينها منصب مدير التحرير، وبعد فترة تعرفت على الناشر رئيس التحرير الأستاذ هشام باشراحيل، رحمه الله، الذي كان حينها يتنقّل بين صنعاء وعدن. كانت تلك اللقاءات بيننا نواة علاقة خاصة جمعتني بهذه الصحيفة العريقة.
بعد أن وضعت حرب صيف 1994م أوزارها، وجدت نفسي خارج إطار العمل الصحفي، بعدما تم إقصائي من موقعي كمدير لتحرير صحيفة “الراية” العسكرية. عشت تلك الفترة في البيت، لكن الأستاذ الإعلامي الراحل عبدالرحمن خبّارة، كان هو من شجّعني وقدّمني للأستاذ هشام باشراحيل، رحمه الله، للعمل في “الأيام”، موضحًا له خلفيتي وتجربتي في العمل الصحفي. لم يتردد الأستاذ هشام، بل استقبلني بصدر رحب، وأبدى استعداده لاحتضاني ضمن أسرة الصحيفة. ومن هنا بدأت رحلتي مع “الأيام” والذي كان فيها فضل كبير بعد الله، في إعادة إحياء مسيرتي المهنية.
كانت البداية بمثابة فترة اختبار حقيقية. أوكلت إليّ مهمة التعامل مع جميع الفاكسات والرسائل التي ترد من مراسلي الصحيفة والمواطنين، فكنت أعيد صياغتها وأعدّها للنشر. عملت على فترتين، صباحية ومسائية، حتى اجتزت تلك المرحلة، ومع مرور الوقت أُسندت إليّ مهام تحرير بعض الصفحات، من بينها صفحة “الشكاوى والتظلمات”، التي بدأت كعمود، ثم ما لبثت أن تطورت إلى صفحة كاملة إلى جانب ذلك، كنت أتابع الأخبار اليومية التي ترد من شبكة المراسلين، وأحرص على تحريرها بما يليق بخط الصحيفة ومصداقيتها.
مع مرور الوقت، بدأت ثقة الناشرين فيّ تزداد، وشيئًا فشيئًا وجدت نفسي محاطًا برعايتهم واهتمامهم، وهو ما شكّل لي دافعًا قويًا للاستمرار والعطاء. ومع هذه الثقة، بدأت أتولى مهامًا أكبر، وكنت أُناوب إلى جانب زميلي الراحل عادل الأعسم، الذي كان يشغل منصب سكرتير تحرير الصحيفة في تلك الفترة.
< كيف أثرت خبراتك السابقة في مجال الصحافة العسكرية على طريقة إدارتك لاحقًا كمحرر أو سكرتير تحرير؟
– حين انتقلت من مؤسسة تعنى بالصحافة العسكرية إلى صحيفة “الأيام”، شعرت بأنني لم أغادر تمامًا ذلك الإطار المنضبط الذي اعتدت عليه. فالحياة العسكرية علمتني الالتزام والصرامة، واندهشت عندما وجدت في “الأيام” نفس تلك الضوابط ولكن بروح مدنية أكثر مرونة. هذا الانسجام كان من أولى الأسباب التي جذبتني للاستمرار، بل وشجعتني على الانخراط الكامل مع “الأيام”. وجدت فيها البيئة التي تليق بطموحي وتحتضن قدراتي، ومن هنا بدأت رحلتي معها.
تدرّجي في العمل الصحفي لم يكن وليد صدفة، بل جاء ثمرة سنوات من الاجتهاد داخل المؤسسة العسكرية. بدأت محررًا بسيطًا، ثم سكرتيرًا للتحرير، إلى أن بلغت موقع مدير التحرير. كان ذلك بعد تخرجي في عام 1982م، وخلال تلك الفترة وحتى العام 1994م، توليت إدارة التحرير في صحيفة “الراية” العسكرية، ثم مجلة “الجندي”، ولاحقًا عملت لفترة محدودة في مجلة “الجيش” بصنعاء.اكتشفت حينها أن لكل مؤسسة طابعها، وأن إدارة التحرير في الصحف العسكرية تختلف كثيرًا من حيث الإيقاع والمتطلبات. صحيفة “الراية” كانت أسبوعية، ومجلة “الجندي” كانت تصدر شهريًا، ولكل منهما تحدياته المختلفة.
أما انتقالي إلى صحيفة “الأيام”، فكان نقلة نوعية. كانت الصحيفة حينها تصدر مرة في الأسبوع وكنت شاهدًا على مراحل تطورها، من إصدارين، ثم ثلاثة، حتى أصبحت تصدر بشكل يومي. عايشت هذه النقلة عن قرب، وكنت جزءًا من هذا التغيير الكبير الذي شكّل منعطفًا في تجربتي الصحفية.
لا شك أن خبرتي السابقة كان لها أثر بالغ في هذا الاتجاه. فقد كنت في موقع المسؤولية، أُشرف على مرؤوسين في صحيفة “الراية” ومجلة “الجندي”، أما في “الأيام”، فقد كنت مرؤوسًا لكنني أحمل رصيدًا من التجربة والخبرة، وهو ما قوبل بتقدير واحترام من الزميل الراحل عادل الأعسم، ومن الناشرين أيضًا. أتذكر أنني عملت إلى جانب قامات صحفية مثل جعفر مرشد وبريك، وعدد من الزملاء الذين كانوا يحملون خبرات عريقة في العمل الصحفي، وكانت بيئة مليئة بالتعلّم والتحدي.
بدأتُ فعليًا أجمع كل قدراتي وأشحذ طاقاتي لأواكب وتيرة العمل داخل أسرة التحرير. كانت تجربة انتقالي من الصحافة العسكرية الرسمية إلى أجواء الصحافة المستقلة تحديًا حقيقيًا، إذ أن لكل منهما طبيعته ونهجه المختلف. ففي الصحافة العسكرية، كنت أعمل في إطار رسمي موجه، أما في الصحافة الحرة فقد وجدت نفسي في فضاء أرحب، أتاح لي التفكير والتعبّير دون قيود، بدأت أكتشف قدراتي الكامنة، واكتسبت مهارات جديدة لم تكن جزءًا من تجربتي السابقة، فكانت تلك المرحلة بمثابة تحول مهني ونفسي عميق غيّر نظرتي للعمل الصحفي.
< من خلال مشوار عملك في “الأيام” كيف تصف الأجواء التي كانت تحيط بعملكم داخل قسم التحرير؟
– لا زلت اتذكر أجواء قسم التحرير، في هذا المكان كنت أقضي فترتين يوميًا مع زملائي، قبل أن يتحول دوامي لاحقًا إلى فترة مسائية تمتد من الخامسة عصرًا وحتى الثالثة، وأحيانًا الرابعة فجرًا. خلال تلك الساعات الطويلة كنا نتابع كل جديد، لحظة بلحظة، الأخبار المحلية والعربية والعالمية. كل فرد منا كان منشغلا في أداء دوره من المحررين والمخرجين إلى المصححين والطباعين. كانت “الأيام” تزخر بنخبة من المصححين ذوي الكفاءة العالية. أذكر منهم، رحمه الله، الأديب والقاص كمال الدين محمد، والزميل أحمد السقاف، وغيرهم من الزملاء الخريجين من كلية التربية قسم اللغة العربية ومن طاقم التصحيح خريجي كلية التربية وهما هاني العروسي وعادل الدهاري، الذين احتضنتهم الصحيفة وأسندت إليهم مهام تصحيح البروفات الأولية قبل النشر حيث كل التفاصيل تُراجع بعناية، وكل كلمة تمر عبر أكثر من عين قبل أن ترى النور.
كانت الأجواء تسودها روح الود والتآلف، الناشران حرصا على توفير بيئة عمل مناسبة في قسم التحرير، أذكر جيدًا كيف كانت تلك المساحة المتواضعة تشهد حضور شخصيات سياسية بارزة، من سفراء ووزراء وقادة في الحراك الجنوبي كانوا يتوافدون إلى “الأيام” وفي كل مرة كانوا يبدون اندهاشهم من بساطة المكان ومن قدر ما تُنتج فيه من أثر، لم تكن هناك مكاتب مغلقة أو أبواب تفصلنا، لا لمدير التحرير ولا لسكرتير التحرير، كنا نعمل في مساحة مفتوحة أشبه بـ “البراق” قريبين من بعضنا البعض، نسمع ونشارك ونُعلّق. خلفي مباشرة كان يجلس مدير التحرير والمخرجون الفنيون وعلى رأسهم وليد سيف، وأمامي الزملاء الأستاذ سليمان حنش (رحمه الله)، مختار المقطري (رحمه الله)، سعيد بجاش، والمرحوم عبدالقادر أمهوب كان يدير قسم الاستماع السياسي، ومن القسم الرياضي سعيد الرديني، ومختار المشرقي والمرحوم عوض بامدهف، ومن المحررين الشباب المرحوم نزيه عبدالله وذويزن مخشف الذي كان قد عمل محررًا ميدانيًا إلى جانب عمله بقسم الصف الضوئي، محمد فضل، عبدالقادر باراس، وفتحي بن لزرق، وآخرون لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم الآن لكنهم كانوا جزءًا من تلك المرحلة التي لا تُنسى بعضهم انتقل إلى مجالات أخرى، وبعضهم حالفهم الحظ بفرص أفضل، لكن “الأيام” كانت المحطة التي جمعتنا.
< ما أبرز المواقف التي تتذكرها خلال فترة عملك بالصحيفة؟
– مررت خلال عملي في صحيفة “الأيام” بمواقف لا تُنسى، بعضها كان عابرًا، وبعضها ترك أثرًا لا يمحى في ذاكرتي. أستطيع القول إن البداية كانت أشبه بفترة هدوء لكن مع إرهاصات الاحتجاجات الأولى، وحركة المتقاعدين العسكريين، ثم انطلاقة الحراك الجنوبي، وخروج الناس إلى الساحات، تلك المرحلة يمكن وصفها بالمرحلة الساخنة.
الرقابة لم تكن فقط ما يراه البعض من ضغوط تمارسها نيابة الصحافة والمطبوعات علينا، بل كانت أعمق وأشد وطأة. الرقابة كانت تُدار علينا من مطبخ النظام نفسه لحظة بلحظة، بلغ بهم الأمر أن يطلبوا معرفة مضامين العدد قبل صدوره، بل وأحيانًا الاستفسار عن البيانات الصادرة.
تخيل أن تُسأل عن تفاصيل تتعلق بمصادرك الصحفية، وعن محتويات مواد لم تخرج من غرفة التحرير بعد! هذا النوع من التدخل لم يكن مجرد ضغط مهني، بل كان انتهاكًا صريحًا لجوهر العمل الصحفي. ولأننا كنا نتمسك بمبادئنا، كانت الضغوط تمارس على الناشرين أنفسهم.
كنا أحرص دائمًا على أن تكون المادة الصحفية التي نقدمها تسهم في الحفاظ على مكانة الصحيفة. كان المرحوم هشام باشراحيل يردد أمامنا، وعلى الكتّاب، عبارة “هذا الصحن الذي نأكل منه، ينبغي الحفاظ عليه”. لم تكن مجرّد توجيه بل كانت رسالة عميقة تحمل إحساسه بالمسؤولية تجاه الصحيفة. الكتّاب حينها كانوا أكثر جرأة وحدةً في نقدهم لفساد النظام وعبثه، وكان الناشران حريصين على أن لا تنجر الصحيفة إلى المحاكم. ومع ذلك لم تسلم الصحيفة، فقد كانت أول من يُجرّ إلى القضاء بسبب مقالات، أحيانًا بدواعٍ واهية لا تستحق حتى النقاش.
أتذكر هشام، رحمه الله، حين كان يقف في ساحات المحاكم، كان يبدو أكثر زهوًا من أي وقت مضى… يمشي مرفوع الرأس، لا دفاعًا عن نفسه، بل من أجل أن يصل صوت الناس ورفع مظلوميتهم.
< كيف كنت تدير الصحيفة أثناء عملك كسكرتير تحرير؟
– جئت إلى “الأيام” وأنا أحمل صفة مدير تحرير، لكني وضعت ذلك جانبًا، وانضممت إلى أسرة تحرير “الأيام” كمحرر عادي. على مدى أربع سنوات، عملت في صياغة الأخبار وإعادة تحريرها دون أن أشعر بأي انتقاص من قدري على العكس تمامًا، جئت إلى “الأيام” لأكون جزءًا من هذه الأسرة المهنية أردت أن أمارس شغفي الصحفي بحرية دون قيود وهذا ما وجدته في “الأيام”.
لم تكن إدارتي كسكرتير التحرير مجرد التزام وظيفي، بل كانت مشاركة حقيقية تنبع من الإحساس بالمسؤولية، حرصت على أن أكون قريبًا من الزملاء، أتابع التفاصيل، أستمع وأحاول فهم جذور مشاكلهم بدلًا من الاكتفاء بالتعليمات. خلال عملنا واجهنا الإشكاليات مثل التأخير والغياب، لكنني كنت أتعامل معهم بروح الحوار وأقنع الناشرين بضرورة الجلوس مع المحررين والاستماع إليهم. بهذه الطريقة استطعت أن أحل الكثير من الإشكاليات بود وعلاقة إنسانية. بانضباط ونجاح إدارة “الأيام” جعلها تتصدر المشهد حتى إغلاقها في مايو 2009م. كانت فترة زاخرة مليئة بالحيوية والزخم، لكنها لم تخلُ من الضغوط. كنا نتحلى بصبر كبير أمام متطلبات العمل المكثف والسهر الطويل. تخيّل أننا نبدأ بتجهيز عدد اعتيادي من 16 صفحة، لنتفاجأ بعد ساعة بزيادته إلى 20 صفحة، ثم إلى 24 صفحة، كانت ساعات متواصلة من الجهد، حتى أننا أحيانًا نفقد الإحساس بالزمن ولا نجد فرصة حقيقية للراحة لنعود للعمل في اليوم التالي. ومع ذلك كنا نحرص بالتنسيق مع الناشرين على إيجاد راحة للمحررين تضمن استمرارية عملهم.
كل مقترحاتي التي أقدمها كانت تلقى تجاوبا حتى تلك التي لا تدخل ضمن نطاق مهامي الصحفية، كنت أتولاها بتكليف مباشر، أحيانًا أُستدعى للتدخل في أمور فنية أو إدارية تتعلق بالمحررين والفنيين والعاملين. ربما لهذا السبب كنت قريبًا من الناشرين، أفهم مزاجهم، وأقرأ مزاج زملائي. حاولت بقدر الإمكان قطع دابر أي مشكلة قبل أن تتفاقم، غالبًا أجلس مع الطرف المعني بهدوء، هذه المهمة وإن بدت إدارية منحتني خبرة لا تقل عن تجربتي المهنية ولهذا أعتز بها كثيرًا، فقد صقلت فهمي في إدارة العمل الصحفي.
< هل طرحت أفكارا تطويرية أثناء عملك سكرتيرا للتحرير في “الأيام” وتم تطبيقها ونجحت؟
– طرحت خلال عملي كسكرتير التحرير العديد من الأفكار التطويرية التي كنا نناقشها بشكل مستمر مع الناشرين،
أدخلنا أبوابًا وأعمدة جديدة أضفت روحًا متجددة على الصحيفة، مع احتفاظنا ببعض الأبواب القديمة. لكن ما كنت أركز عليه، هو اهتمامي بشبكة المراسلين برفع حافزهم، ولا نستطيع القول في تلك الفترة راتب لكنها عبارة عن حوافز لتشجيعهم، وتوفير معدات أساسية كالكاميرات وأجهزة التسجيل، خاصة وأنهم كانوا يعملون في ظروف صعبة. استجابت الإدارة، وتحديدًا الناشرَين، لطلبي، ووافقا على دعم عدد كبير من المراسلين، لا سيما المحررين الأساسيين في المحافظات، برفع حوافزهم الشهرية. كانت هذه إحدى المهام التي كنت أحرص عليها، حفاظًا على هذه الشبكة التي كانت بالنسبة لنا مهمة في تلك المرحلة باعتبارها الصحيفة الوحيدة التي تمتلك شبكة واسعة من المراسلين تغطي كل المحافظات، كانوا رجالًا على خط النار في الضالع وردفان وحضرموت وشبوة يقفون بثبات في وجه النظام.
< كيف تعاملتم داخل الصحيفة مع محاولات سلطات صنعاء المتكررة للتضييق على عملكم الصحفي؟
– تعرضت الصحيفة لموجات من الاضطراب بفعل الأحداث التي كانت تتصدر النشر، وأخذت نصيبها من المسائلات القانونية والاستدعاءات شبه اليومية إلى نيابة الصحافة والمطبوعات، وازدادت الضغوط على النشر. لم تقتصر محاولات التضييق على ملاحقة المراسلين وحتى الكتاب، بل طالت أيضًا أسرة التحرير نفسها، فقد تعرضنا لثلاث هجمات، واحدة في صنعاء واثنتان في عدن، سبقها إحراق أعداد الصحيفة وهي في طريقها إلى ردفان، وتلقينا تهديدات عبر الهاتف من أعلى رموز النظام. كان صالح، لا شاغل له سوى مراقبة “الأيام” ومحاولة إسكاتها بأي وسيلة. عشنا كطاقم تحرير حالة من الاستنزاف النفسي، وكان هشام باشراحيل، رحمه الله، لم يمت بمرض، بل أستطيع القول إن الضغوط والتهديدات اليومية هي ما فتكت به. لكن كان ما يميز الراحل هشام في تلك المرحلة هدوؤه، يدخل غرفة التحرير ليطمئننا ويخفف عنّا التوتر، ويقول بصوته الهادئ “كل هذا سيزول وفي النهاية سننتصر لأننا أصحاب حق ولسنا متبليين”. أتذكر كان بعض الزملاء يلاحظون سيارات تراقب مبنى الصحيفة، فيما كانت كاميرات “الأيام” ترصد كل حركة، ومع ذلك كنا نؤمن أن ما نقوم به هو لنصرة القضية التي ناضل الجميع من أجلها، وكانت “الأيام” سندها الأساسي ورافعتها.
< ما أبرز الأخبار التي لا زالت راسخة في ذهنك.. هل يمكنك أن تذكر لنا تغطية أو مقابلة أو تقرير صحفي تعتز بها كثيرًا؟
– مرت علينا أخبار كثيرة، لكن ما يهمني التوقف عند الدور الخفي واللافت للأستاذ الراحل هشام باشراحيل، الذي كان يمتلك شبكة من المصادر الموثوقة، تمدّه بأخبار جعلت من “الأيام” تتألق. كنت شاهدًا على كمّ الحصريات التي كنا ننفرد بها، خصوصًا ما يتعلق بالمشهد السياسي أو التطورات القادمة. غالبًا ما كنا نجلس معًا، نعيد صياغة تلك الأخبار بحذر وحنكة، وكأننا ننسجها خيطًا خيطًا. وهناك أيضًا شخصيات يثق بها الناشران، ويعتمدان عليها كمصادر لمواد حصرية تنشر للصحيفة.
أتذكّر كيف دفعني الأستاذ هشام لتغطية قضايا كانت حينها ساخنة تشعل الرأي العام في قاعات المحاكم. كانت تلك التغطيات بمثابة دفعة قوية لانتشار “الأيام”، فقد كانت سببا في زيادة المبيعات وتوسيع رقعة التوزيع.
من بين أبرز تلك القضايا قضية “أبو الحمزة المصري” والشبكة التجسسية التي وصلت إلى عدن، وقضية “بيت الزبيدي” أصحاب الامتياز لوكالة “سامسونج” حينها حاول بعض النافذين من أصحاب السلطة سحب التوكيل منهم، ولفّقوا ضدهم قضية زعموا فيها أنهم يقودون شبكة تخريب بين صنعاء وعدن فأحضروا رجلًا إسبانيًا من أصل سوري وعرضت القضية أمام رئيس المحكمة وقتها القاضي فهيم رحمه الله، واكتشفت لاحقًا الحقيقة كانت القضية مفبركة بالكامل والهدف منها فقط سحب الوكالة من بيت الزبيدي.
من التغطيات التي لا تُنسى في مسيرتي المهنية، تلك التي قمت بتغطيتها في مدينة زنجبار بأبين، والمتعلقة بقضية محاكمة المحضار (أبو الحسن) ورفاقه، المرتبطة باختطاف 14 سائحًا ومقتل أربعة منهم في محافظة أبين عام 1999م. حضرتُ المحاكمة برفقة الأستاذ هشام باشراحيل، ومعنا الصحفي الراحل محمد عبدالله المخشف. القضية حظيت باهتمام محلي ودولي واسع، بعد صدور الحكم، نادى أبو المحضار على الأستاذ هشام، وقال له أريد التحدث معك، وبعدما سمح له القاضي قال له أبو المحضار باعطيك تصريح وأسألك بالله لا تحذف منه شيء، ووافق على ذلك الأستاذ هشام، فقال أبو المحضار، انه يدين الحكم عليه بالإعدام، وقال أن هؤلاء هم خدام هذه السلطة وخدام الاستعمار وأمريكا ولهذا فأن الحكم سياسي أكثر منه قانوني او قضائي، وانه تم إملاءه على السلطة القضائية، بعد ذلك خرجنا نبحث عن المخشف، وعلمنا أنه ذهب إلى كابينة الاتصال ليرسل الخبر عاجل إلى رويترز، وقال للأستاذ هشام، إن السبق الصحفي معك، فقال له الأستاذ هشام كيف، ثم التفت إلى هشام، قائلًا بنبرة حاسمة “هل سننتظر للغد لنشر الخبر؟ يجب أن تطبعوا عددًا مسائيًا” مع أننا أصدرنا العدد الصباحي كالمعتاد، لكننا بالفعل قررنا خوض مغامرة النشر المسائي وكانت فكرته رائعة، أن تصدر “الأيام” للمرة الأولى عددًا مسائيًا. في ظهر ذلك اليوم لم أعد إلى منزلي، بقيت مع الأستاذ هشام نُعدّ الصفحة الأولى بأنفاس متلاحقة، وخصصنا مساحة بارزة لخبر الحكم، مدعوما بالصور من داخل قاعة المحكمة تُظهر القاضي والحضور وممثلي النيابة. كان ذلك أول عدد مسائي تطبعه “الأيام” كانت لحظة فريدة لا تمحى من ذاكرتي.
كما أجريتُ خلال تلك الفترة عدة حوارات مع شخصيات سياسية ووزراء. وكنت على مقربة من الأستاذ الراحل هشام في تواصله مع رموز الحراك السلمي الجنوبي. ساعدت في صياغة عدد من بياناتهم، وكنت على تواصل وثيق مع شخصيات بارزة مثل النوبة، والسعدي، وعلي هيثم الغريب، وأحمد عمر بن فريد، ويحيى الشعيبي، وغيرهم ممن اعتادوا زيارة مقر الصحيفة.
لا زلت أتذكر غرفة التحرير، حيث كنا نختار بعناية ما يجب نشره، ونحرص على أن نكون حاضرين دائمًا في قلب الحدث. اتذكر أبرز ما وثّقناه من أخبار خلال تلك الفترة منها أخبار اللاجئين الصوماليين في اليمن الذين تدفقوا إلى السواحل اليمنية وكان لنا دور في تسليط الضوء على معاناتهم الإنسانية. كذلك تابعنا حوادث اختطاف السياح الأجانب المتكررة، وغطينا محاكمات تفجيرات عدن في 1999م وفي نفس العام احتجاجات حضرموت وأحداث الضالع في 2000م وتناولنا عدة قضايا أشهرها قضية أهالي كود قرو بعدن، وقضية سفاح كلية الطب بجامعة صنعاء ومحاكمته، والهجوم على المدمرة الأمريكية كول في أكتوبر 2000م كنا على الخط الأول في تغطيتها، وكذلك أحداث 11 سبتمبر 2001م وهي كانت نقطة تحوّل مهمة للصحيفة جعلتنا نتحول في ذلك اليوم إلى الإصدار اليومي، مع هذا الحدث العالمي شهدنا تدفّقًا كبيرًا في الأخبار من مختلف الوكالات العالمية، وكان الزميل باشراحيل هشام باشراحيل (نجل رئيس التحرير الراحل هشام باشراحيل) حاليا نائب رئيس التحرير، هو كان الدينامو والمسؤول عن قسم الأخبار الدولية بالصحيفة، كان يلتقط الأخبار والصور من جميع الوكالات التي كانت “الأيام” مشتركة معها مثل وكالات رويترز، والفرنسية، والألمانية وغيرها، حيث كنا نستلم الأخبار خلال ثواني ونظرًا لتدفقها المتواصل وازدياد الإقبال على الصحيفة واتساع نطاق توزيعها، جاء القرار بشكل تلقائي بالتحول إلى الإصدار اليومي. أهمية تلك الأحداث جعلتنا ننفرد بالتغطية المستمرة في ظل غياب أي صحيفة أخرى تواكب هذه الأحداث، فكنا السباقون في نشر المستجدات أول بأول. وبعد شهرين من التغطيات المكثفة والمستمرة، قررنا المضي قدمًا بالإصدار اليومي، وهو النهج الذي واصلناه منذ ذلك الحين.
أيضا من الأحداث البارزة تغطية جلسات مجلس النواب، حيث كان الفقيد الصحفي الكبير محمد زين الكاف، كان بمثابة عين الصحيفة بالبرلمان يداوم على حضور جلسات المجلس بتكليف من الناشرين. وكانت تغطياته من أبرز الأحداث التي حظيت “الأيام” بمتابعة واسعة. كما كان مراسلها البارز الأستاذ محمد فارع الشيباني، أطال الله في عمره، والذي تميز بانفراداته الصحفية بتصريحات هامة لمسؤولين في الحكومة اليمنية، وكذلك مع أمناء الأحزاب والتنظيمات السياسية في صنعاء. وكانت هذه من بين الأخبار التي تنفرد بها الصحيفة.
< ذكرت في إحدى مقالاتك أن صحيفة “الأيام” كانت تعتمد على مراسلين شعبيين.. هل يمكنك توضيح هذه التجربة باختصار؟
– نعم كانت “الأيام” منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي ولا زالت تعتمد بشكل أساسي على “المراسلين الشعبيين” وقد رسّخ تجربتها المؤسس الراحل محمد علي باشراحيل، بفتح أبواب الصحيفة أمام المواطنين، لنقل مشاكلهم وقضاياهم اليومية، سواء عبر الرسائل أو الهاتف أو بالحضور المباشر. لم يكن يتجاهل أصوات الناس، بل كان يتحقق من المعلومات بنفسه، وينشر ما يخدم المصلحة العامة، مما جعلها منبرًا حقيقيًا لنبض الشارع. واستمرت هذه التجربة لاحقاً بعد إعادة إصدارها الثاني عام 1990م، حيث تم تطويرها من خلال إنشاء شبكة مراسلين في عموم محافظات اليمن ومديرياتها.
< ما أبرز التحديات التي واجهتها خلال عملك في “الأيام”؟
– التحديات كانت كبيرة ولا يمكن حصرها، لكن أبرزها الكمّ الكبير من الأخبار والتقارير التي كانت تردنا يوميًا عبر الفاكس. تخيّل أن فاكسات الصحيفة كانت تستهلك كميات كثيرة من ورق الفاكس المسمى بـ (الرول أو المطوية) فبينما تستخدمه بعض الشركات طوال شهر، كنا نستهلكه في يوم واحد فقط، كان هذا الضخ الإخباري الكثير من الفاكسات التي كانت تأتي من شبكة مراسلينا والناس يتطلب مننا استيعابه خلال ساعات معدودة. الإعداد للإصدار اليومي يبدأ فعليا بعد صلاة المغرب، حيث تكون وتيرته في ذروتها، وكان علينا أن نغطي كل مساحة الصحيفة بما يليق من هذا الضخ الإخباري الكثير. التحدي لم يكن في كميات الفاكسات التي تصلنا فقط، بل في كيفية إرضاء جميع الأطياف وتلبية رغبات القرّاء في كل محافظات الجمهورية.
ومن التحديات التي لا زلت أتذكرها ويتذكرها الكثيرين من زملائي، تلك المرتبطة بالوضع الأمني أتذكر خارج مبنى “الأيام” عندما ندخل للعمل أو ننهي دوام عملنا اليومي كنا نلتفت خلفنا ونرى بأننا كنا مراقبون من سيارات من بعيد، مع ذلك كنا نمضي بصبر لإيماننا بالمهمة التي نؤديها.
< ما الذي تعلمته في “الأيام”؟
– تعلمت الكثير من “الأيام” التي امتدت لأربعة عشر عامًا، كانت تجربة ثرية أشعر تجاهها بفخر واعتزاز، فقد كنت واحدًا من أسرة “الأيام” ولي بصمة فيها التي حققت نجاحات كبيرة على يد الناشرين وأسرة الصحيفة. تعلمت ديناميكية العمل داخل أسرة التحرير في تبادل الآراء ومراجعة المواد قبل النشر هذا الأسلوب كان من أهم الدروس المهنية التي تشربتها. كما وجدت الفرق بين الصحافة الحرة والصحافة الموجهة. حيث وجدت في الصحافة الحرة مساحة واسعة للحركة والتعبير دون قيود بعكس الصحافة الرسمية التي تدار وفق توجيهات ومحددات معينة.
“الأيام” بحق مدرسة صحفية متكاملة وما تزال، تخرّج فيها العديد من خريجي الإعلام وعمل فيها كبار الأساتذة منذ أيام مؤسسها العميد الراحل محمد علي باشراحيل، واستمرت في احتضان القامات الصحفية الذين شكّلوا أسرة تحرير.