لأنهم لا ينتمون إليه: السلالة تعادي التاريخ اليمني وتنهب آثاره

روكب اليوم

في واحدة من محاضراته المتلفزة، هاجم حسين بدر الدين الحوثي احتفاء اليمنيين بأعمدة مأرب، واصفا إياهم بـ “الوثنيين” الذين يعظمون ما لا ينبغي تعظيمه.
لم يكن ذلك مجرد انطباع عابر، بل تعبير صريح عن موقف أيديولوجي متجذّر، يرى في تاريخ اليمن مشكلة، وفي حضارته خطرا يجب تحجيمه أو تحقيره أو طمسه بالكامل.

هذا العداء الصارخ للتاريخ ليس سلوكا عابرا لجماعة مسلحة، بل هو امتداد واضح لتاريخ طويل من الإنكار والتهميش والعداء الذي مارسته الإمامة الزيدية، منذ دخول يحيى بن الحسين الرسي طباطبا إلى اليمن قادما من فارس في القرن الثالث الهجري، وحتى الممارسات الراهنة لجماعة الحوثي، التي تتعامل مع الذاكرة اليمنية كعدو يجب إخضاعه أو محوه.

بين ماضٍ مُنتج وسلالة بلا أثر
على امتداد التاريخ، ترك اليمنيون شواهد عظيمة على حضارتهم، من سد مأرب إلى معابد الجوف، ومن المدارس العامرية في رداع إلى الأسواق والقصور والمكتبات الكبرى في تعز وحضرموت وعدن وجبلة، الى الشواهد الحضارية في المحويت وعمران والضالع والبيضاء، في المقابل، لم تترك الإمامة الزيدية، رغم عقود من الحكم، أي منجز معماري أو علمي أو اقتصادي يمكن الإشارة إليه بفخر، وكل ما خلفته هو السجون، والمظالم، والنزاعات، ومفاهيم العصبية السلالية والتكفير السياسي والديني.

هذا الفارق الحضاري الفادح، جعل من التاريخ اليمني عبئا نفسيًا على السلالة التي وجدت نفسها في مواجهة دائمة مع شعب يملك ذاكرة حية، وعمق تاريخي حضاري، وسردية وطنية لا تتقاطع مع الرواية التي تروّجها.

الآثار… ذاكرة ينبغي طمسها
لا تتعامل الإمامة الزيدية وامتدادها الحوثي، مع الآثار بوصفها شواهد وطنية أو رموزا للهوية، بل كعقبات ثقافية تهدد مشروعها القائم على إعادة تشكيل وعي اليمنيين بعيدا عن تاريخهم الحقيقي، ولهذا، لم يكن مستغربا أن ينظر حسين الحوثي إلى الاحتفاء بأعمدة مأرب بوصفه “ضلالا”، بل ومؤشرا على “الوثنية”.

من هذا المنطلق، يصبح تدمير المتاحف، ونهب القطع الأثرية، وتهريب النقوش والمخطوطات، ممارسات منسجمة مع رؤية تعتبر أن الحضارة لا تستحق الاحتفاء، بل يجب تغييبها لصالح رواية تبدأ من لحظة دخول “الإمام” القادم من طبرستان، وتنتهي بتثبيت “الولاية”.

التدمير الممنهج للتراث
منذ احتلالهم صنعاء، مارس الحوثيون أبشع صور التعدي على التراث، فنهبوا متحف العرضي، وسرقوا مقتنيات المتاحف الوطنية، وتورطوا – بحسب تقارير دولية – في عمليات بيع منظم لقطع أثرية يمنية في أسواق أوروبا وآسيا.

لم تسلم القلاع، ولا التماثيل، ولا المخطوطات النادرة، بعضها حُطّم، وبعضها فُقِد، والكثير منها تم تهريبه وبيعه عبر وسطاء وشبكات منظمة.
ظهرت عشرات القطع الأثرية اليمنية في مزادات عالمية، بعضها نُهب مباشرة من مواقع أثرية، والبعض الآخر من المخازن والمتاحف، وتشير التقديرات إلى أن اليمن فقد خلال عقد واحد أكثر مما فقده في قرن من الحروب.
كما كشفت تقارير أمنية أن بعض قادة الجماعة، أسست شبكات خاصة لتهريب وبيع الآثار، وجعلوها مصدر تمويل رديف للحرب، تمامًا كما فعلت “داعش” في سوريا والعراق.

أزمة انتماء
في جوهر هذا العداء للتاريخ، تكمن أزمة انتماء عميقة، فالجماعة السلالية الغازية لا تشعر بالارتباط العضوي بالأرض اليمنية، ولا تنتمي الى عمقها الثقافي والتاريخي والحصاري، ولها لا تجد غضاضة في بيع آثارها، أو هدم معالمها، أو تحقير رموزها الحضارية، ومن لا يرى في اليمن وطنا، لا يعنيه ما إن كانت نقوشه تُباع في الخارج، أو مآثره تُسحق تحت سطوة الجهل والفساد.

ولعل هذا ما يفسر تكرار نمط التدمير المتعمّد للمكتبات القديمة، والمخطوطات التاريخية، والمباني ذات القيمة المعمارية، فضلا عن إهمال المواقع الأثرية، وتحويل بعضها إلى مواقع عسكرية أو مناطق مهملة.
من هنا نفهم لماذا تُهدم المعالم، وتُشوّه الجدران، وتُسرق القطع الأثرية، وتُمنع البعثات الأجنبية من التنقيب أو التوثيق، فكل نقشٍ محفوظ، وكل تمثال قائم، وكل متحف نابض، هو تهديد لخرافة السلالة وهدم لفكرها وفضح لعدميتها.

الذاكرة في مرمى الاستهداف
إن أخطر ما تفعله الجماعة الحوثية، كامتداد للإمامة الزيدية، ليس فقط السيطرة على الحاضر، بل محو الذاكرة، فالمعارك الكبرى في التاريخ لا تبدأ من الميدان، بل من وعي الناس، ومن يفقد ذاكرته، يصبح أقرب للتبعية، وأبعد عن المقاومة.

لهذا، لا يجب التعامل مع نهب الآثار كجرائم عادية، بل كجزء من استراتيجية أعمق تستهدف تفريغ اليمن من تاريخه، وقطع الصلة بين الإنسان وأرضه، وبين الجيل وميراثه الحضاري.

مواجهة المشروع بحماية الذاكرة
السبب في ذلك أعمق من مجرد أطماع مالية أو فوضى تنظيمية، إنه شعور دفين بعدم الانتماء، فالسلالة التي جاءت من خارج النسيج اليمني، لا ترى في تاريخ هذا البلد إلا ندّا وجوديا يفضح هشاشة مشروعها القائم على النسب لا المنجز، وعلى خرافة “الحق الإلهي” لا التاريخ ولا العقل.
ليس ما يحدث من نهب للآثار مجرد جريمة ثقافية، بل هو إعلان حرب على الهوية اليمنية، ومحاولة لتفريغ الذاكرة من عناصر قوتها.
وإذا كان الأئمة قد أخفوا كتبا وأحرقوا مخطوطات، فإن أحفادهم اليوم يبيعون تماثيل وتاريخا يعود لآلاف السنين… بلا خجل ولا انتماء.
لقد آن لليمنيين أن يدركوا أن الصراع مع الحوثي ليس فقط سياسيا أو عسكريا، بل هو صراع على المعنى، على الهوية، على الذاكرة.
ومن لا يحمي ذاكرته… يفقد حاضره ومستقبله.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com
Enable Notifications OK No thanks