لماذا يصوت الناس لليمين المتطرف؟ علم النفس السياسي يجيب | سكون


روكب اليوم

في كتابه الشهير “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، الصادر عام 1992، جادل العالِم السياسي “فرانسيس فوكوياما” بأن صعود الديمقراطية الليبرالية الغربية يمثل نهاية التطور السياسي للبشرية.

هذا التصور عُدَّ آنذاك انتصارا نهائيا للنموذج الليبرالي الغربي على الأنظمة الأخرى بوصفه أفضل نظام للحكم، لكن بعد أقل من عقدين من صدور كتاب فوكوياما، يبدو أننا بصدد تحوُّل ما في مسار ما عَدَّه فوكاياما نهاية للتاريخ.

فقد قفزت التيارات اليمينية إلى المقدمة، وأثار ذلك التقدم دهشة العالم، وهو ليس مجرد تحرك للأمام، بل هو تحوُّل كبير يشهده العالم أو التاريخ، ومركز هذا التحول هو الولايات المتحدة الأميركية وعدد من دول أوروبا بعد عقود من هيمنة الأنظمة الليبرالية.

المنظر السياسي الأميركي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما (رويترز)

ونشهد بشكل شبه يومي آثار هذا التحول على المشهد العالمي، ولا يمكننا أن نتجاهل التساؤلات الملحة حول أسبابه، وكيف تَحوَّل أغلب الناخبين من الالتفاف حول الديمقراطية إلى تبنّي خطاب اليمين المتطرف، بكل ما يحمله من عنصرية تُناقِض القيم الليبرالية التي استقرت بوصفها قيما مهيمنة منذ عقود عديدة على المشهد السياسي الغربي؟

وهنا نعود إلى علم النفس السياسي لبحث مسار هذا الصعود، فكيف تتشكّل المواقف السياسية للأفراد؟ هل تحتكم قرارات الناخبين إلى العقل فقط؟ أم أن هناك خارطة خفية من تشابكات العوامل النفسية والشعورية التي تحدد خياراتهم دون وعي منهم؟ بمعنى أن التكوين العضوي للمخ قد يكون مفيدا في فهم جزء من انفتاح أو انغلاق شخص تعبيرا عن مواقفه السياسية؟ وهل ذلك البناء التشريحي وحده يحسم هذا الأمر أم أن هناك عوامل أخرى؟

هل يختلف دماغ المحافظين عن الليبراليين؟ حقائق من علم الأعصاب

الجوانب التفسيرية التي تبرر صعود هذه القوى معظمها تركز على الأبعاد الاجتماعية والسياسية، ولكن بجانب ذلك هناك دراسات نفسية عضوية تحاول أن تقيم ارتباطا ما بين التكوين العقلي التشريحي وبين الهوى والميل السياسي، صحيح أن من التجاوز العلمي والمنطقي أن نبلغ بتلك الدراسات إلى درجة الحسم والحتم، لأن الإنسان أعقد من أي معادلة كيميائية أو نفسية.

وفي عالم السياسة المتشابك، كلٌّ منا يرى العالم عبر منظاره المحدود، ولا يستطيع الإنسان أن يتجاوز عقله وثقافته، لكن هناك بعض الأبحاث تشير بجانب ذلك إلى ضرورة فهم طبيعة التكوين الفسيولوجي لأدمغتنا، فقد يكون له دور في الاتجاه نحو فكرة ما، طبعا ليس وحده، فثمة خليط واسع من العواطف والمحفزات والاستجابات اللاواعية التي تتفاعل مع تجاربنا وأوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها لتُشكِّل في النهاية، مع هذا التكوين العقلي، مواقفنا السياسية.

وفقا لمراجعة شملت 37 دراسة في علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي، فالخلاف بين المحافظين والليبراليين لا يمكن اختزاله في تباين وجهات النظر فقط، بل يعكس كذلك اختلافا في البنية الفسيولوجية للدماغ والاستجابات النفسية والعصبية اللاواعية.

من بين هذه الدراسات دراسة استخدمت التصوير بالرنين المغناطيسي، لتكشف أن المحافظين لديهم زيادة في حجم اللوزة الدماغية اليمنى المرتبطة بمعالجة الخوف، بينما يزيد حجم المادة الرمادية في القشرة الحزامية الأمامية عند الليبراليين والمسؤولة عن التعامل مع عدم اليقين، وهو ما أكدته دراسة أخرى بعنوان “الارتباطات المعرفية الليبرالية والمحافظة” كشفت عن ارتفاع نشاط الحزام الأمامي عند الليبراليين، مما يشير إلى حساسية عصبية إدراكية أكبر للإشارة إلى تغيير نمط الاستجابة المعتاد.

ليس هذا وحده هو المدهش في الأمر، لكن طبيعة استجابتك لبعض العوارض أو الأحداث الجارية يمكنها أن تتيح قدرا من فهم اللون الفكري الذي تدافع عنه، حيث كشفت دراسة أخرى أن حساسية الأفراد الفسيولوجية للأصوات والصور المخيفة أو المهددة تؤثر على الدرجة التي يدافعون بها عن السياسات التي تحمي البنى الاجتماعية القائمة من التهديدات المتصورة، فيما وجدت دراسة أخرى أن الأشخاص الذين يستجيبون للاشمئزاز بدرجة أكبر هم أميل إلى المحافظة.

بمعنى آخر أن مشاهدة فيلم رعب أو القرب من أي كارثة، وقياس رد الفعل الواقع من الفرد، يمكن أن يجلّي بعضا من أسباب لماذا اختار هذا الشخص أن يكون ليبراليا أو محافظا، أن يكون مع الانفتاح السياسي والتعدد الاجتماعي أو مؤيدا لغلق المجال العام وطرد المهاجرين.

ومن زاوية السمات النفسية، يكشف نموذج السمات الشخصية الخمس الكبرى، الذي يُعد من أبرز نماذج تحليل الشخصية في علم النفس الحديث، عن علاقة بين سمة “الانفتاح على التجارب” والليبرالية وبين سمة “الانضباط” والمحافظة، حيث يميل المحافظون للتمتع بقدر أكبر من التنظيم الذاتي، وهم أكثر حساسية تجاه التهديدات، وقد أظهرت ثلاث دراسات دور المرونة المعرفية والتحول عن الرأي وقبول وجهات النظر في التأثير على الأيديولوجية السياسية، بغض النظر عن مختلف العوامل الثقافية والمجتمعية الأخرى.

فيما أظهرت دراسة أخرى أن المحافظين يتذكرون المشاهد السلبية بدرجة أكبر من الإيجابية فيما يُعرف بالتحيز السلبي، وهو ما يجعلهم أكثر عرضة للتجاوب مع الخطابات التي تثير المخاوف.

مستوطنون ينتسبون لليمين اليهودي الإسرائيلي يصلون خلال تجمع “عيد العرش” بالقرب من الحدود مع قطاع غزة مطالبين بإعادة توطين غزة بـ “المجتمعات اليهودية” في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2024. (غيتي)

من الخوف إلى خطاب الكراهية

وإذا كانت مشاعر مثل الخوف والاشمئزاز والغضب التي تسم بعض المحافظين قد يُنظر إليها للوهلة الأولى باعتبارها استجابات فردية، لكن بإمعان النظر ندرك أنها تشتبك مع السياق الاجتماعي المحيط، لتتحول من استجابة إلى موقف وأدوات أساسية تؤثر في المسار الأيديولوجي للفرد.

خلال العقدين الماضيين، تضافرت الأزمات الاقتصادية والتحولات الديموغرافية والاجتماعية لتخلق أرضا خصبة لمخاوف متصورة ، رأى فيها بعض الأفراد تهديدا مباشرا لهويتهم ومكانتهم الاجتماعية، وهو ما يستعرضه كلٌّ من “كريستوفر إس. باركر” و”مات إيه. باريتو” في كتابهما “التغيير الذي لا يمكنهم الإيمان به: حزب الشاي والسياسة الرجعية في أميركا المعاصرة”، حيث أشارا إلى ما أطلقا عليه “تهديد المكانة” بوصفه عاملا أساسيا من عوامل صعود خطاب تيارات أقصى اليمين في الولايات المتحدة الأميركية.

وفقا للكاتبين، ففي هذا السياق تَعتبر الجماعة المهيمنة أن ثقافتها وقيمها هي التعبير الأسمى عن المجتمع، وتفسر أي تغيير في وضعها الراهن باعتباره مؤامرة منظمة من قِبَل “الآخرين”.

ويتشكل “تهديد المكانة” عبر الشعور بالتهديد الوجودي من قِبَل الجماعات الأخرى، ترافقه مركزية عِرقية تتعلق بشعور الجماعة المهيمنة بالتفوق مع الانتقاص من الآخرين، بالإضافة إلى ما يطلق عليه عالِم النفس الاجتماعي “رودريك كرامر” (Paranoid Social Cognition) أو “الإدراك الاجتماعي المصحوب بجنون العظمة”، حيث لا يتمكن الأفراد من التكيف مع التغيرات المتسارعة، فيلجؤون إلى لوم الآخرين واتهامهم بالتآمر.

ويعود “باركر” إلى اللحظة التاريخية التي شهدت انتخاب “باراك أوباما” أول رئيس أميركي من أصول أفريقية، ووصول “كامالا هاريس” إلى منصب نائب الرئيس، وتعيين “لويد أوستن” وزيرا للدفاع، ومن ناحية أخرى انتخاب “رشيدة طليب” و”إلهان عمر” للكونغرس لتصبحا أول امرأتين مسلمتين في الكونغرس.

وتزامنت هذه التغييرات في مسيرة المساواة وحقوق الأقليات مع الظهور المتزايد للحراك المدافع عن حقوق النساء والمهاجرين والأقليات، وكلها تغييرات اجتماعية أثارت مخاوف شرائح واسعة من الطبقة العاملة البيضاء، التي رأت في هذه التحولات تهديدا لمكانتها التقليدية والتراتبية الهرمية التقليدية للمجتمع الأميركي من وجهة نظرهم، لتبرز حركة “حزب الشاي” (Tea party movement) في الولايات المتحدة خلال رئاسة أوباما تعبيرا عن تصاعد اليمين، ومشاعر القلق العِرقي والخوف من فقدان المكانة، في حركة سياسية أسست لخطاب محافظ أكثر ميلا للعودة للجذور الهوياتية البيضاء، وقد اكتمل تحول المشهد السياسي مع انتخاب دونالد ترامب، وخطابه القومي المستند إلى “استعادة عظمة مفقودة”.

لكنها لم تكن المرة الأولى التي يشهد فيها المجتمع الأميركي ردَّ فعلٍ رجعيا عنيفا في مواجهة التغيرات الاجتماعية. فعقب هزيمة الكونفيدرالية في الحرب الأهلية الأميركية وإلغاء العبودية، أسست مجموعة من جنرالات الجنوب السابقين عام 1865 منظمة سرية عُرفت باسم “كوكلوكس كلان”، هدفت إلى منع المواطنين السود من ممارسة حقوقهم السياسية عبر موجة من العنف والإرهاب المتعمّد لم تنتهِ إلا بتدخل الحكومة الفيدرالية.

عادت منظمة “كو كلوكس كلان” للظهور من جديد في أميركا، ويقرأ محللون هذه العودة بسبب شعور قطاعات من المجتمع بالتهديد من قبل الأقليات والمهاجرين (رويترز)

ثم عادت في موجة جديدة مع مطلع القرن العشرين، وعلى العكس من السرية واللامركزية التي اتسمت بها الموجة الأولى، كانت الثانية واسعة الانتشار، وقُدِّر عدد أعضائها بنحو 4 ملايين عضو امتلك بعضهم نفوذا سياسيا كبيرا، واتسعت أهدافها لتشمل إلى جانب السود معاداة الكاثوليك والمهاجرين ونقابات العمال والحركات النسائية، وهي ظاهرة تشبه ما يشهده العالم اليوم، حيث يتغذى المد اليميني المتطرف على شعور قطاعات واسعة من المجتمع بالتهديد من قِبَل الأقليات والمهاجرين ومختلف التغيرات الاجتماعية المتسارعة.

اليمين المتطرف في أوروبا: موجة جديدة من الشعبوية

ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، فقد شهدت أوروبا خلال العقد الأخير موجة من تصاعد اليمين الشعبوي المتطرف، مدفوعة بمشاعر العداء تجاه المهاجرين واللاجئين التي دفعت الناخبين في مختلف أنحاء أوروبا للتضحية بعقود طويلة من الديمقراطية رغبة في الحفاظ على البنية الاجتماعية التقليدية التي تعزز تفوق الرجل الأبيض في المجتمعات الغربية.

في ألمانيا على سبيل المثال، وبعد تصاعد أزمة اللاجئين السوريين، وتبني المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الباب المفتوح عام 2015، تسارع صعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” المعادي للمهاجرين، ليصبح ثالث أكبر حزب سياسي في عام 2017.

ووفقا لاستطلاعات الرأي التي أجرتها صحيفة “بوليتيكو أوروبا”، تضاعف دعم الحزب ما بين عامي 2022-2023 من 11% إلى 20%، وبحلول عام 2024 أصبح ثاني أكثر الأحزاب شعبية في البلاد. وفي الدول الإسكندنافية تصاعدت مشاعر الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب لتغذي دعم الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة، في السويد على سبيل المثال، أظهرت الاستطلاعات أن 65% من السكان يحملون آراء سلبية تجاه المسلمين.

ويبدو أن تصريح خيرت فيلدرز زعيم حزب “من أجل الحرية” الهولندي اليميني المتطرف لـ”بي بي سي”: “علينا أن نفكر في شعبنا أولا الآن.. الحدود مغلقة.. صفر طالبي لجوء”، أصبح شعارا معبرا عن التيار السائد حاليا في المشهد السياسي الأوروبي.

خطاب الكراهية وآليات الدماغ

وفقا لعالِم النفس “ماثيو ويليامز” في كتابه “علم الكراهية”، ينبع التحيز من مجموعة من القوالب النمطية التي يتم إسقاطها على جماعة ما بناء على التعميمات والتصنيفات الذهنية. ويربط ويليامز التحيز بشعور الفرد بتهديد الهوية الجمعية الذي يعززه خطاب سياسي يقدم الآخرين بوصفهم مصدر تهديد.

ويرى أن التحيز من بين آليات الدماغ الفطرية التي يمكن تفسيرها بالعودة للاستجابات النفسية والسلوكية القديمة التي طورتها المجتمعات البشرية عبر التاريخ، حين كانت النجاة مرهونة بالتشبث بالقبيلة، وتجنب الغرباء.

من ناحية أخرى، يمكننا أن نربط هذه المشاعر بما سبق الإشارة إليه من تأثير الاشمئزاز على المواقف السياسية، حيث يميل الأشخاص الأكثر حساسية تجاه الاشمئزاز إلى تبني مواقف محافظة، وبحسب عالم النفس “ديفيد بيزارو” يمكن أن يعمل الاشمئزاز بصفته أداة فعالة لترسيخ التمييز ضد الفئات المهمشة، وجعل استبعادها أكثر قبولا، عن طريق ربط الجماعات “المنبوذة” بالخطر، أو القذارة، أو غيرها من المحفزات للاشمئزاز الأخلاقي والجسدي.

يمكن أن نرى مثالا لذلك في خطاب “أندريه فينتورا” زعيم حزب “تشيجا” اليميني المتطرف في البرتغال، الذي يتهم مجتمع “الروما” بأنهم يعتمدون على الإعانات الحكومية، وكذلك في خطاب فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر الذي وصف اللاجئين بـ”الغزاة المسلمين” المهددين لـ”نقاء” الأمة.

مؤتمر صحفي يجمع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (يمين)  ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، بعد وصول نتنياهو إلى المجر متحديًا مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة، وذلك يوم 3 أبريل/نيسان 2025. (الفرنسية)

لماذا نصطف مع الجماعة؟

في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وضع كلٌّ من “هنري تاجفيل” و”جون تيرنر” ما عُرف بـ”نظرية الهوية الاجتماعية” (Social identity theory) لشرح السلوك بين المجموعات. وفقا لهذه النظرية، فنحن نعرف أنفسنا من خلال المجموعة التي ننتمي إليها، حيث يسعى الأفراد للانتماء إلى المجموعات الفائزة أو المهيمنة لتحقيق ما أطلقا عليه “التميز الإيجابي”، وقد أظهرت التجارب أن الهوية الاجتماعية تتشكل بناء على مقارنة المجموعة التي ينتمي إليها الفرد بغيرها، مع الرغبة في تعظيم الفارق بينها وبين المجموعات الأخرى.

ينعكس هذا في الخطابات اليمينية الشعبوية التي تركز دائما على تقسيم المجتمع إلى “نحن” و”هم”، وتتسع “هم” لتشمل النخب الفاسدة والأقليات والمهاجرين، وكلهم يُقدَّمون مثل كبش فداء يتحمل وزر المتغيرات الاجتماعية، فيما تقدم الأحزاب نفسها بصفتها صوتا للأغلبية من المواطنين الشرفاء الذين يسعون لاستعادة حقوقهم المسلوبة ومواجهة الشر والتهديدات المتصورة.

وهكذا فحين يشعر الفرد بأن جماعته تتعرض للتهديد، يصبح الغضب تجاه الآخر هوية مشتركة وتعبيرا عن الجماعة وليس مجرد رأي.

يتجلى ذلك بوضوح على سبيل المثال في ظاهرة نشر الأخبار الزائفة أو المضللة، في سلسلة تجارب نُشرت عام 2023 في مجلة علم النفس التجريبي، درس الباحثون تفاعل المحافظين في إسبانيا والولايات المتحدة مع المعلومات المضللة التي تتوافق مع قيمهم السياسية. في التجربة الأولى والثانية لوحظ أن المحافظين الأكثر تطرفا مالوا إلى نشر الأخبار الزائفة رغم إدراكهم زيفها.

ولفهم الظاهرة من الناحية العصبية، أُجريت تجربة ثالثة مع رصد نشاط المشاركين الدماغي عبر التصوير بالرنين المغناطيسي أثناء تفاعلهم مع المعلومات الزائفة، وكشفت النتائج أن مناطق مثل القشرة الأمامية السفلية الثنائية والطلل تنشط عند التفكير في مشاركة هذه المنشورات، وهي مناطق ترتبط بالإحساس بالانتماء الاجتماعي، وفهم مشاعر الآخرين، والاستجابة للإشارات الاجتماعية.

وهو ما يعني أن مشاركة الأخبار الزائفة قد تكون وسيلة لإظهار الولاء للجماعة الأيديولوجية، وشكلا من أشكال الانتماء المشترك، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تنتج بيئات مغلقة تعزز من قناعات الفرد الذاتية. ولا ترتبط المشاركة في هذه الحالة بالاقتناع أو الرغبة في البحث عن الحقيقة بقدر ما هي سعي من الفرد لجنب التنافر المعرفي عبر إعادة تشكيل مواقفه لتتوافق مع انتمائه السياسي.

كيف يدفع الفقر الناس نحو التطرف؟

وبالإضافة إلى القلق الوجودي المرتبط بالتغيرات الاجتماعية والديموغرافية، شكَّلت الأزمات الاقتصادية كذلك أرضا خصبة لصعود اليمين، بداية من الأزمة العالمية عام 2008 وما تبعها من اضطرابات طويلة الأمد ازدادت حِدَّتها مع جائحة “كوفيد-19″، وهو ما دفع الناخبين للبحث عن سياسات بديلة بعد فقدانهم الثقة في الأنظمة الحالية.

ويمكننا ملاحظة وجود ارتباط جليّ بين مؤشرات الاقتصاد وتصاعد دعم اليمين المتطرف، في ألمانيا على سبيل المثال ارتفع دعم حزب “البديل من أجل ألمانيا” بنسبة 0.6% مع زيادة خط الفقر بنسبة 1%. كما لوحظ اتجاه مماثل في فرنسا، حيث أدى كل ارتفاع في الأسعار بمقدار نقطة مئوية واحدة إلى زيادة بنسبة 0.58% في دعم حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف. وبالمثل في إيطاليا، فقد كشف تحليل امتد عشر سنوات أن ارتفاع الأسعار بنسبة 1% ارتبط بزيادة قدرها 1.24% في دعم حزب “إخوة إيطاليا”.

كان التضخم في عشرينيات القرن الماضي في ألمانيا من أهم عوامل صعود النازية، وقد ترافقت وعود “هتلر” بمكافحة التضخم بخطابه عن نقاء الدم الآري. (غيتي)

تاريخيا، شهد العالم مواقف مماثلة ارتبط فيها صعود اليمين والأنظمة الرجعية بالأزمات الاقتصادية، ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى وصلت الليرة الإيطالية عام 1920 إلى سُدس قيمتها في 1913، وهو ما أدى إلى تصاعد شعبية الحزب الفاشي الذي وعد بالتصدي للتضخم. كما مهّد التضخم الذي واجهته تشيلي في السبعينيات إلى صعود الدكتاتور “أوغستو بينوشيه” إلى السلطة.

وكان التضخم في عشرينيات القرن الماضي في ألمانيا من أهم عوامل صعود النازية، وقد ترافقت وعود “هتلر” بمكافحة التضخم بخطابه عن نقاء الدم الآري.

هذه العلاقة بين عدم الرضا وصعود الأنظمة الشعبوية تؤكدها دراسة حديثة، نُشرت في مارس/آذار 2024، بعنوان “عدم الرضا عن الحياة والتصويت الشعبوي اليميني: أدلة من المسح الاجتماعي الأوروبي”. من خلال تحليل بيانات جُمعت من 14 دولة بين عامي 2012-2018، وجد الباحثون أن الأفراد غير الراضين عن حياتهم يميلون إلى تبني مواقف سلبية تجاه الهجرة، كما تنخفض لديهم مستويات الثقة في المؤسسات السياسية، مما يعزز من احتمالية دعمهم للأحزاب الشعبوية اليمينية.

العار المكبوت والغضب السياسي

وإذا كانت مشاعر الخوف وعدم اليقين والانتماء إلى الجماعة وقودا للصعود اليميني، فقد سلطت دراسة نُشرت عام 2018 بعنوان “الجذور العاطفية للشعبوية السياسية اليمينية” الضوء على شعور آخر خفي وهو شعور العار المكبوت، حيث صار الفرد في المجتمعات الرأسمالية يحمل وحده عبء النجاح أو الفشل بالكامل، وأصبحت أمور مثل البطالة أو الفقر أو فقدان المكانة أمورا ينظر إليها باعتبارها عارا وفشلا فرديا وليست نتاجا لظرف اجتماعي أو اقتصادي.

وهو ما خلّف لدى الأفراد شعور دائم بالتهديد والعار المكبوت الناتج عن الخوف من فقدان المكانة. أبرزت الدراسة كيف يتحول هذا العار إلى سلوك سياسي عبر آليتين نفسيتين: الأولى هي الاستياء المكبوت، حيث لا يعبر الفرد مباشرة عن مشاعر الخوف أو الفشل، وإنما يحولها إلى غضب موجَّه للآخرين باعتبارهم السبب في التدهور.

والآلية الثانية هي التباعد العاطفي، حيث ينسحب الفرد من الهويات المرتبطة بالمشاعر السلبية مثل الطبقة الاجتماعية، ويلجأ إلى التمسك بهويات أكثر استقرارا مثل القومية أو العِرق أو الدين، تمنحه شعورا بالقوة ووسيلة نفسية للتعافي من شعوره بالعار، وهو ما يقدمه الخطاب اليميني الشعبوي، الذي يمنح الأفراد خطابا مطمئنا، وإجابات غير قابلة للنقاش.

وهكذا يصبح الانتماء إلى الجماعة بمنزلة وسيلة للتعامل مع مشاعر الخوف والعار، والاستجابات غير الواعية التي يُمليها علينا الدماغ وسيلة لإعادة تحويل عدم اليقين إلى غضب يربط الفرد بأيديولوجية وجماعة تحميه من تهديد متصور، وتمنحه إجابة نهائية.

غرف الصدى الرقمية: من التفاعل إلى التطرف

وفي ظل كل هذه المشاعر المعقدة، تبرز وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها مساحة مناسبة لتفريغ هذه العواطف والتقلبات النفسية، حيث تمنح الخوارزميات الأولوية للمشاركة وتخلق من حولنا تأثير غرف الصدى، لنتفاعل فقط مع ما يعزز قناعاتنا.

واليوم، لم تعد الدعاية الانتخابية تعتمد على الوسائل التقليدية القديمة، بل أصبحت الساحة الرقمية بأسلحتها من الترندات والميمز والخوارزميات هي اللاعب الأساسي في خلق الرأي العام وإعادة تشكيله، سواء عبر تعليقات منصات التواصل الاجتماعي أو حتى فيديوهات تيك توك القصيرة. وقد سمح التطور الرقمي لليمين المتطرف باستغلال هذه الأدوات، إضافة إلى أدوات تحليل البيانات والتوجيه النفسي وغيرها، لتمرير رسائله إلى الجموع بطرق غير تقليدية.

من بين هذه الأدوات المستحدثة على سبيل المثال الاختبارات السياسية المتاحة على الإنترنت، التي تَعِد الناخب بمساعدته في اتخاذ قرار بناء على إجاباته لعدد من الأسئلة. فقد كشفت دراسة نُشرت في سبتمبر/أيلول 2024 بعنوان “تأثير مطابقة الرأي (OME): شكل جديد من التأثير الخفي عبر الإنترنت” أن بعض هذه الاختبارات تعطي نتائج متحيزة وفقا للخوارزميات التي تديرها، ويمكن أن تؤثر على توجهات التصويت.

وفقا لنتائج الدراسة، يميل الأفراد إلى دعم المرشح أو الحزب إذا قيل لهم إن آراءهم متوافقة معه، حتى لو كان هذا التوافق زائفا، وهو ما أطلق عليه الباحثون “تأثير مطابقة الرأي”.

ومع استمرار التغيرات في المشهد السياسي العالمي، يبدو أن التفاف الناخبين حول اليمين هو أبعد من أن يكون استجابة عقلانية، بل ساحة لتفاعل مزيج من التغيرات الاجتماعية والسياسية مع مسارات البيولوجيا والغرائز النفسية والانفعالات غير المرئية، وامتدادا لصراعات قديمة قدم التاريخ الإنساني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com
Enable Notifications OK No thanks