
روكب اليوم
على خطى جامعة أوتريخت الهولندية، وفي خطوة مثيرة للجدل، أعلنت كلية العلوم الإنسانية في جامعة لايدن بهولندا -إحدى أعرق الجامعات الأوروبية- عن خطة تقشفية قد تؤدي إلى إلغاء برنامج الإسلام واللغة العربية الذي يعود تاريخه إلى 4 قرون، ضمن سلسلة إجراءات لخفض الميزانية.
ويأتي هذا القرار المحتمل ضمن خطة أوسع لإعادة هيكلة البرامج الأكاديمية بسبب عجز سنوي متوقع يصل إلى 5.7 ملايين يورو، ناتج عن ارتفاع التكاليف وتراجع التمويل الحكومي. وتشمل الخطة تقليص عدد كبير من المقررات الدراسية، وإلغاء أو دمج تخصصات أكاديمية.
يُعد برنامج اللغة العربية في جامعة لايدن من أقدم البرامج المتخصصة في العالم الغربي، وأسهم عبر تاريخه الطويل في تكوين نخب فكرية ودبلوماسية أدت أدوارا محورية في فهم وتحليل العالم العربي والإسلامي. وخلال تلك الفترة، كونت الجامعة مجموعة عريقة من الكتب والمخطوطات.
بيد أن الخطة الجديدة تقترح إلغاء كافة التخصصات المرتبطة بدراسات الشرق الأوسط، بما في ذلك العربية، والفارسية، والتركية، والعبرية، والدراسات الإسلامية. وأثار هذا التوجه ردود فعل غاضبة داخل الأوساط الأكاديمية، حيث اعتبر البعض أن الجامعة تُعرِّض بذلك التعدد الثقافي والمعرفي للخطر.
دبلوماسيو المستقبل بلا لغة عربية؟
في خضم القلق العام من احتمالية إلغاء برنامج اللغة العربية في جامعة لايدن، تتساءل افتتاحية صحيفة “تراو” الهولندية: “إذا أُلغي البرنامج الدراسي الذي مضى عليه 400 عام بسبب عجز الميزانية، فمن أين سيكتسب دبلوماسيو المستقبل معارفهم عن الثقافات العربية؟”.
أيضا، عبّر أكاديميون عن قلقهم من تأثير هذا القرار على مستقبل البحث العلمي وفهم المنطقة العربية، حيث قال أحد الأساتذة: “نحن نواجه خطر أن يصبح لدينا جيل من الدبلوماسيين والسياسيين لا يملك الحد الأدنى من المعرفة باللغة والثقافة العربية، وهذا أمر خطير في عالم متعدد الأقطاب”.
ويرى البروفيسور يواس فاخيميكرز، الأستاذ المشارك في كلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة أوتريخت ومنسق برنامج بكالوريوس الإسلام واللغة العربية، “أن نية إلغاء برنامجي بكالوريوس الإسلام واللغة العربية والدراسات الدينية هي خطة غير دقيقة وغير واضحة، ودليل على غياب الرؤية”. ويضيف أن “هناك اهتماما كبيرا بالمواد التي يغطيها البرنامجان، وهو أمرٌ ليس مفاجئا، إذ إن معرفة العالم العربي أساسية. بالإضافة إلى ذلك، يُتيح هذا البرنامج مساحة لوجهات نظر غير غربية، وهو أمرٌ تُوليه الجامعة تقديرا كبيرا”.
برامج مهددة بالإلغاء
في جامعتي أوتريخت ولايدن، تُهدد العديد من برامج اللغات بالإلغاء، بما في ذلك اللغة العربية. هذا على الرغم من السمعة العالمية العريقة لجامعة لايدن التي تفتخر بأن بها أحد أقدم برامج اللغة العربية في أوروبا، وهو تقليد يعود تاريخه إلى أكثر من 400 عام. ولهذا السبب تحديدا، تُشكل خطط إلغاء البرنامج مصدر قلق كبير للمستشرق كاريل كيرستن.
ويقول كيرستن، وهو محاضر في “كينغز كوليدج لندن” وخبير في الشؤون العربية: “لا أفهم تماما ما يعتقدون أنهم يوفرونه من خلال هذا. الأمر لا يتعلق بمبالغ طائلة من المال، بل بالضرر الهائل الذي يسببه إلغاء برنامج عمره 400 عام”.
ويتابع البروفيسور كيرستن: “تتمتع هذه الجامعة -لايدن- بسمعة عالمية. تأسست في خضم حرب الثمانين عاما، ونجت من الاحتلالين الفرنسي والألماني، وفترة الاستعمار. أجد قرار إلغاء برامج اللغة العربية في الجامعات قصير النظر للغاية. لقد تضاعفت المناصب الإدارية والتنظيمية خمسة أضعاف، لذا أنا أعرف أين يجب أن أبحث”.
مصحف لايدن
تحتفظ مكتبات جامعة لايدن بالعديد من صفحات القرآن الكريم القديمة جدّا في مجموعاتها الشرقية. وبفضل التحليل باستخدام طريقة الكربون-14، يبدو الآن أن أقدم تلك الصفحات يعود تاريخها إلى النصف الثاني من القرن السابع الميلادي.
وتقول كارين شيبر، الخبيرة في مجال حفظ الكتب والورق في أمستردام والحاصلة على الدكتوراه في “تقاليد تجليد الكتب الإسلامية”: “في عام 2011، وبتنسيق من أكاديمية برلين-براندنبورغ للعلوم، أطلقت الجمعية الألمانية للأبحاث والوكالة الوطنية الفرنسية للأبحاث مشروع ‘قرآنيكا’ الدولي لدراسة تاريخ النصوص القرآنية المبكرة”.
وتضيف: “لا يقتصر البحث على النص نفسه، بل يشمل أيضا الشظايا المادية التي يمكن تأريخها بدقة باستخدام طريقة الكربون-14. ولأن هذا البحث مُكلف ولا يُجرى إلا في مختبرات متخصصة، كانت إجابتنا ‘نعم’ عندما طُلب من جامعة لايدن المشاركة في المشروع وتحليل العديد من شظايانا القرآنية”.
“تلقينا منذ ذلك الحين نتائج الاختبار. حُدد تاريخ قطعة البردي بين عامي 650 و715 ميلاديا، أي قبل أكثر من قرن مما كان يُعتقد سابقا، ويُرجّح أن أقدم قطعة على الرق قد كُتبت بين عامي 650 و700 ميلادي. ويؤكد هذا البحث عمر هذه النصوص وأهميتها، فقد كُتبت أقدم قطعة بعد وفاة النبي محمد بحوالي 30 إلى 70 عاما”.
في السابق، لم تكن قطع القرآن الكريم على الرق والبردي تحمل تاريخا محددا، وكان تاريخ قطعة البردي يُقدَّر بشكل متحفظ بين 770 و830 ميلاديًا تقريبا. وبناء على الخط العربي الطويل والمائل المعروف باسم “الحجازي”، عرفنا أن قطع لايدن قديمة، لكننا لم نكن نعرف عمرها بالضبط.
إغلاقات في جامعة أوتريخت
أكدت جامعة أوتريخت أنها تُخطط لإلغاء دراسات 6 برامج شهادات -الألمانية، والفرنسية، والإسلام والعربية، والإيطالية، والكلتية، والدراسات الدينية- بحلول عام 2030. وهي برامج تستقبل أقل من 25 طالبا جديدا سنويّا، ولم تكن مربحة لسنوات. هذا يعني أن قبول الطلاب الجدد سيتوقف اعتبارا من الأول من سبتمبر/أيلول.
ويُوضح توماس فايسينس، عميد كلية العلوم الإنسانية بالجامعة: “يعود ذلك إلى استمرارنا في الحفاظ على مجموعة من البرامج التي أصبحت باهظة التكلفة. ومع التخفيضات التي أعلن عنها مجلس الوزراء، علينا خفض نفقاتنا إلى حد بعيد. ولتجنب المزيد من العجز بحلول عام 2030، علينا خفض نفقاتنا بنسبة 10%”.
ويرد البروفيسور يواس فاخيميكرز: “إذا اتضح من الأخبار على مدى العشرين عاما الماضية أن الإسلام والعالم العربي يُشكلان مصدر قلق كبير في كل من الشرق الأوسط وهولندا، وربما يكون عام 2023-2024 هو الأبرز، ومع ذلك، أعلنت كلية العلوم الإنسانية بجامعة أوتريخت أنها ترى ضرورة إلغاء 6 برامج بكالوريوس، بما في ذلك برنامج الإسلام واللغة العربية، كجزء من خطة انتقالية”.
ردود فعل
على مواقع التواصل الاجتماعي، تستمر ردود الفعل. ويقول ماتيس هولمان: “للأسف، دراسات اللغات ليست خيارا شائعا، ولكن قيمتها المضافة يُقلَّل من شأنها كثيرا. وتُنتج دراسة هذه اللغات معرفة حول الثقافة المعنية، وتنتج مستشارين يمكنهم تقديم المشورة لرواد الأعمال، أو مترجمين يمكنهم ترجمة أدلة التعليمات. ومن ثم، لدينا خبراء يمكنهم تقديم معلومات أقل تحيزا”.
ويستطرد هولمان: “أجد اختفاء اللغتين الألمانية والفرنسية في أوتريخت أمرا صادما للغاية. إن حقيقة أن الجامعة ترفض هذه الدراسات باعتبارها ‘غير مربحة’ تشير إلى أن الربح، وليس المعرفة، هو هدف مؤسسة أكاديمية كانت ضمن أفضل 50 جامعة عالميّا لسنوات”.
أما رولاندر دورلاند فيقول متهكما: “حسنا.. بعد بضعة عقود سنصبح جزءا من ‘الشرق الأوسط’. ربما حان الوقت لدراسة ‘الثقافة والتاريخ الهولندي القديم’؟”. وتقول آنا راب: “من المخزي أن تكون هذه هي الخطط وأن يكون هناك الكثير من عدم اليقين المحيط بها”.
وفيما تعمل الكليتان في جامعتي أوتريخت ولايدن على تقليص عدد المقررات الدراسية لتحقيق التوازن المالي، يأمل المدافعون عن البرنامج أن يُراجَع القرار نظرا لأهمية اللغة العربية أكاديميّا وجيوسياسيّا.
ورغم أن هذه التوصيات ما زالت قيد الدراسة، ومن المتوقع أن يُعرض القرار النهائي على مجلس الجامعة في الأشهر المقبلة، فإن التخوفات من أن يتحول المقترح إلى واقع تزداد مع مرور الوقت، ومن ثم تزداد موجة انتقادات الأكاديميين للقرار.