
روكب اليوم
إسطنبول- تستعد إسطنبول اليوم الخميس لاحتضان أول محادثات مباشرة بين روسيا وأوكرانيا منذ أكثر من 3 سنوات، بعدما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 11 مايو/أيار استعداده استئناف التفاوض “من دون شروط مسبقة” على الأراضي التركية.
وسارعت أنقرة إلى الترحيب بالمبادرة، مؤكدة استعدادها الكامل لاستضافة المحادثات، في مشهد يعيد إلى الأذهان جولات إسطنبول التفاوضية عام 2022. وتأتي هذه التطورات وسط دعم غربي متزايد للتحرك التركي، وتلويح بفرض عقوبات جديدة على موسكو في حال عرقلتها جهود وقف إطلاق النار.
الدور التركي
جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقب ترؤسه اجتماعا لمجلس الوزراء في العاصمة أنقرة الثلاثاء الماضي تأكيده أن بلاده تمتلك “الإرادة” لاستئناف الحوار المباشر بين موسكو وكييف، وهي “مستعدة لتقديم كل أشكال الدعم” لضمان تقدمه في جميع مراحله.
وأضاف أردوغان أن أنقرة سيسرّها استضافة وفدي البلدين، مشددا على أن وقفا شاملا لإطلاق النار سيمهد الأرضية اللازمة لإنجاح المحادثات.
من جهته، صرح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في أكثر من مناسبة بأن “الطرفين وصلا إلى الحد الأقصى مما يمكن تحقيقه عسكريا”، وأن اللحظة الحالية تمثل فرصة للانتقال نحو حوار مسؤول بشأن وقف النار.
وأوضح فيدان أن هذا الحوار لا يعني الاعتراف بشرعية الاحتلال الروسي، بل يجب أن يُناقش على مسارين منفصلين: السيادة، ووقف الأعمال القتالية.
وتقف وراء التحرك التركي حسابات أمنية وإستراتيجية واضحة. فتوقف الحرب يخدم أمن البحر الأسود، ويقلل من المخاطر التي تهدد طرق التجارة والطاقة الحيوية لأنقرة كما يحد من التأثيرات السلبية للنزاع على الاقتصاد التركي.
فضلا عن ذلك، تسعى تركيا إلى ترسيخ موقعها كفاعل دولي مستقل ومؤثر في التوازنات الأوروبية، من خلال أداء دور “الجسر السياسي” بين الشرق والغرب. وبينما تحافظ أنقرة على شراكتها داخل حلف الناتو، فإنها في الوقت ذاته تُبقي قنوات التواصل مفتوحة مع موسكو، وتمتنع عن الانخراط الكامل في نظام العقوبات الغربية، بما يحفظ مصالحها الاقتصادية دون التفريط بمبادئها تجاه وحدة الأراضي الأوكرانية.
ويرى المحلل السياسي التركي جنك سراج أوغلو أن الوساطة التي تقودها أنقرة بين موسكو وكييف تتجاوز كونها جهدا ظرفيا لاحتواء أزمة إقليمية، لتُمثل في جوهرها محاولة تركية مدروسة لإعادة ترسيخ موقع البلاد كقوة دبلوماسية مستقلة وفاعلة على مستوى النظام الدولي.
ويؤكد المحلل السياسي، في حديثه للجزيرة نت، أن الحرب في أوكرانيا شكلت اختبارا حقيقيا لمفهوم الأمن الجماعي داخل أوروبا، وخلقت فراغا سياسيا ودبلوماسيا أتاح لتركيا أن تطرح نفسها كبديل موثوق، خصوصا في ظل التردد الغربي وارتباك الناتو في مراحل النزاع الأولى.
ويضيف سراج أوغلو أن نجاح أنقرة في إدارة الوساطة أو الحفاظ على زخمها قد يدفع القوى الغربية إلى إعادة النظر في موقع تركيا ضمن معادلات الأمن الإقليمي، لا من باب الانضمام المؤسسي الفوري إلى الاتحاد الأوروبي، بل باعتبارها شريكا لا يمكن تجاوزه في الترتيبات الأمنية المستقبلية، خصوصا في مناطق مثل البحر الأسود وشرق أوروبا.
عوامل نجاح
ليست هذه المرة الأولى التي تقود فيها تركيا مبادرة بين الطرفين. فقد سبق لأنقرة أن رعت جولات تفاوض مباشرة بين موسكو وكييف في أنطاليا وإسطنبول خلال مارس/آذار 2022، كما لعبت دورا محوريا في إنجاز “اتفاق الحبوب” التاريخي في يوليو/تموز من العام ذاته، والذي مكّن أوكرانيا من تصدير الحبوب عبر البحر الأسود رغم الحرب. إضافة إلى ذلك، توسطت أنقرة في عمليات تبادل أسرى معقدة بين الطرفين.
وتعتمد فرص نجاح الوساطة التركية في النزاع الروسي الأوكراني على جملة من العوامل التي تعزز من موقع أنقرة كوسيط مقبول من الطرفين، في مقدمتها الثقة النسبية التي تحظى بها تركيا لدى موسكو وكييف، إذ ينظر إليها كثير من الأوكرانيين والروس كوسيط موثوق قادر على الدفع نحو تسوية متوازنة.
وتبرز أهمية الزخم الإقليمي والدولي المحيط بالمبادرة، إذ حشدت أنقرة دعما من واشنطن والعواصم الأوروبية، مما أضفى على المبادرة ثقلا سياسيا إضافيا. ونقلت الرئاسة التركية أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطا متزايدة لتسهيل التوصل إلى اتفاق سلام، معتبرة أن تركيا في موقع فريد يتيح لها لعب دور فعال في الوساطة.
#ترمب: مستمرون في المفاوضات بشأن #روسيا وأوكرانيا والأمر سيكون صعبا اليوم وغدا، وإذا حصل شيء ما سأذهب يوم الجمعة إلى #تركيا لأن هذا الأمر يجب أن ينتهي#الأخبار pic.twitter.com/lIp3RcNWgv
— قناة الجزيرة (@AJArabic) May 15, 2025
ويرى الأكاديمي والمحلل السياسي التركي علي فؤاد جوكشه أن تركيا تتمتع بمكانة فريدة تتيح لها التحدث بصدق وودية مع كل من روسيا وأوكرانيا، وهو ما يجعلها دولة تحظى بثقة الجانبين في وقت واحد.
وأوضح جوكشه، في حديثه للجزيرة نت، أن إقامة مفاوضات بين طرفين متحاربين على أساس الثقة المتبادلة أمر نادر في عالم الدبلوماسية، حتى إن كانت قنوات الاتصال مفتوحة بينهما، مضيفا أن “تركيا نجحت في تعزيز هذه الثقة لدى الطرفين، مما يجعل استئناف اللقاءات على أراضيها تطورا مهما في هذا التوقيت”.
وفي ما يتعلق بفرص نجاح الجولة المقبلة من المحادثات، عبر جوكشه عن اعتقاده بأن أنقرة ستقدّم مقترحات ملموسة تدفع باتجاه التوصل إلى توافق، مشيرا إلى أن “احتمال التوصل إلى وقف لإطلاق النار سيكون مرتفعا، ما لم تُمارس ضغوط على الرئيس الأوكراني من الأطراف التي ترغب في إطالة أمد الحرب”، على حد تعبيره.
دعم دولي
حظيت المبادرة التركية بتأييد واسع من جانب القوى الغربية، في مقدمتها الولايات المتحدة، حيث أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب دعمها العلني لمسار الوساطة، مؤكدة أن مبعوثها الخاص ستيف ويتكوف سيشارك في المحادثات المرتقبة.
أما على الجانب الأوروبي، فقد جاء الاجتماع الوزاري الذي عقد مؤخرا في كييف بمنزلة إعلان موقف موحد لدول الاتحاد، حيث حذر قادة التكتل من “عقوبات ضخمة” قد تُفرض على روسيا إذا رفضت وقف إطلاق نار مدته 30 يوما، وهي المهلة التي اعتُبرت ضرورية لإتاحة المجال أمام مسار تفاوضي فعلي.
من جهته، جدد حلف شمال الأطلسي (ناتو) تأكيده دعم أوكرانيا في مواجهة “العدوان الروسي”، مشيرا إلى أن التوصل إلى هدنة شاملة يمثل أولوية ملحة لضمان الاستقرار الإقليمي.
وفي موقف داعم لكنه حذر، رحب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بالمبادرة التركية، لكنه نبه إلى أن استمرار الخلافات حول جدول أعمال المفاوضات قد يُفرغ المسار من مضمونه ويقوّض فرص نجاحه.