روكب اليوم
ومنها ما اعتُبر بالون اختبار لوساطة موريتانية، بين المغرب والجزائر، غير بعيدة عن أوساط أميركية رسمية، يقودها الموريتاني علي أبو طالب.
ليست هذه أول مرة، تبزغ فيها مبادرات من أجل تذويب الجليد بين البلدين، منذ أن احتدمت العلاقات بينهما، عقب قطع العلاقات الدبلوماسية، ومنها مبادرات رسمية، على مستوى دول عربية.
لكنها باءت كلها بالفشل؛ لأن الوساطة تقتضي قبول الطرفين، أو على الأقل عدم اعتراض طرف، إلا أن تلك المساعي لم تحظَ بقبول يُتيح لها أن تتبلور كوساطة فعلية.
تبنّى أطراف عديدون، على مستوى غير رسمي، مبادرات لم تبرح الأماني، ولم يُتَح تنزيلها على أرض الواقع.. ويرى بعض المسؤولين في البلدين أن ملف العلاقات المغربية الجزائرية يُعد إستراتيجيًّا، ولا يُتوقع لفعاليات غير رسمية أن تؤثر فيه، مهما كان وزنها أو استقلاليتها.
كان منها مبادرة من أطراف تونسية وازنة دعت إلى التفكير في سبل الحوار في إطار مغاربي، لكن الحرب على غزة حجبت المبادرة.
حاولت بعض القنوات الإعلامية أن تُجري حوارات بين فعاليات مغربية وأخرى جزائرية، لكنها بقيت ظاهرة إعلامية، ذات تأثير محدود، بل منعدم، والحال أن الحوار يقتضي الرصانة، والعمق، والبعد عن الأضواء.. الإعلام غير الرصين قد يُسيء، في ظل التوجّس القائم بين البلدين.. ولذلك لم تنجح أي مبادرة، بشكل موازٍ، أو غير رسمي.
بيدَ أن السياق الحالي، مع التحولات الكبرى التي يعرفها العالم، والاهتزازات التي تعرفها المنطقة، في الشرق الأوسط، أو منطقة الساحل، والترتيبات التي تجري مع دول أفريقية، برعاية أميركية، من شأنها أن تجعل الحوار بين البلدين، على الأقل على المستوى غير الرسمي ممكنًا.. ويرجى أن يكون مؤثرًا على مستوى القرار.
مواطن الاختلاف بين الرباط والجزائر معروفة، بيدَ أن موضوع الخلاف لم يمنع، في فترات سابقة، من السعي لحلحلة الوضع الجامد بين البلدين، وإن كانت العلاقات سابقًا لم تبلغ ما بلغته حاليًا من تشنّج.
في 1983 وقّعت كل من الجزائر، وتونس، وموريتانيا على معاهدة الإخاء والتوافق والتعاون، وكان الردّ، توقيع اتفاقية ما بين المغرب من قِبل الملك الحسن الثاني، مع من كان عدوه اللدود، معمر القذافي، وهي اتفاقية الاتحاد العربي الأفريقي.
وكان لا يُنتظر لتلك الاتفاقية التي أغضبت واشنطن، أن تستمر، وأنها كانت ذات بعد تكتيكي. وانتهى الأمر بأن التقى الملك الحسن الثاني والشاذلي بن جديد في مايو/ أيار 1987، بوساطة من المملكة العربية السعودية، وبجهود حثيثة من الملك فهد بن عبدالعزيز الذي حضر اللقاء بين القائدين في منطقة حدودية.
أفضت الخطوات الصغيرة، إلى تذويب الجليد، حينما قدِم الأمين العالم لجبهة التحرير الوطنية حينها، الشريف مساعدية مصحوبًا بوزير الخارجية الطالب الإبراهيمي، من أجل استضافة العاهل المغربي لحضور القمة العربية التي كانت ستنعقد في الجزائر يونيو/ حزيران 1988.
كان جواب الملك الحسن الثاني مثيرًا للمسؤولَين الجزائريَين، بالقول كيف يمكنه حضور القمة وليس له سفارة بالجزائر، وكانت إشارة منه إلى رغبته في إعادة العلاقات الدبلوماسية، وهو ما تم فعلًا خلال أسابيع معدودة قبل القمة، في 8 يونيو/ حزيران. كان المغرب من طلب قطع العلاقات الدبلوماسية في 1976، وكان على المغرب أن يبادر باستئنافها.
هل هو نفس السيناريو يتكرر؟ هل التحوّلات الكبرى التي تجري عالميًا وإقليميًا، من شأنها أن تفتح كوّة للحوار، كما حصل في سياق نهاية الثمانينيات؟
بؤرة الخلاف بين البلدين، هي ظاهريًا، حول الصحراء. وموقفا البلدين معروفان، لكن هل قضية الصحراء سبب التوتر بين البلدين، أم هي صورته؟ ذلك أن التوتر بين البلدين كان قائمًا قبل اندلاع قضية الصحراء، وأن جوهر المشكل، كما قال أحمد بن بيلا، أول رئيس للجزائر المستقلة، هو الحدود الأيديولوجية بين البلدين.
هناك أسئلة لا يمكن تجاهلها في ظل التحولات الكبرى التي يعرفها العالم، وتهيّئ لتغير التراتبيات القائمة: هل يمكن للبلدين، بنسب متفاوتة، أن يكونا في منأى عن خطابات الهوية المُطوِّحة، في إعادة رسم الخرائط، والتي لا تقف عند الاعتراف بالخصوصية الثقافية؟ وهل يستطيع البلدان أن يظلا حبيسَي سباق التسلح، ويرهنا مصيرهما ومصير المنطقة، التي تُعد، بالنظر لموقعها، وإمكاناتها، واعدة.
كلا البلدين يؤكدان في نصوصهما المؤسسة على الوحدة المغاربية، وهي الإطار الوحيد من أجل تفعيل مؤهلاتهما، وتجاوز الخلافات حول الحدود، وتعبئة طاقاتهما، مع احترام سيادة كل بلد وخياراته، واحترام الالتزامات المبرمة بين البلدين.
منطق الأشياء ليس هو بالضرورة ما يتحكم في العلاقات بين الدول، ولذلك لا يستطيع المرء أن يتكهن حول مآل العلاقات، على المستوى الرسمي، على خلاف المستوى غير الرسمي، الذي من شأنه أن يخضع لاعتبارات العقلانية والصراحة والجرأة.
والسياق الحالي، في ظل التحوّلات العالمية الكبرى، من شأنه أن يتيح إمكانية انعقاد لقاء المستوى غير الرسمي، الذي يضم فعاليات مغربية وجزائرية، لها مصداقية وتتمتع بالاستقلالية.
الطريف أن العلاقات بين الشعبَين، على مستوى منصات التواصل الاجتماعي، عرفت زخْمًا إيجابيًا، مؤخرًا، تحت تأثير عاملين، أولًا التماثل فيما يخصّ المواقف الشعبية حول غزة، وثانيًا ردود الفعل على التشكيك حول العمق الأمازيغي لشمال أفريقيا، وهما الأمران اللذان كسرا الصورة النمطية التي كان يغذّيها الإعلام الذيلي.
وحري بهذا الإعلام، في ظل السياق الحالي، أن يتوقف، أو أن يَرفع عنه اليد من يحركه؛ لأن ضرره أكثر من نفعه، إن كان له نفع، أصلًا.
ويمكن أن نذكّر ببديهيات، وهي أن الوضع الحالي بما يطبعه من توتر، ليس في صالح الجزائر وليس في صالح المغرب، وأن تخفيف التوتر، ومد الجسور، في أفق علاقات طبيعية، رغم الخلافات القائمة، هو في صالح البلدين، ومن شأنه خلق دينامية يمكن أن تذوّب الخلافات القائمة.
أذكّر بما كان الإعلام الرسمي الجزائري، على مستوى الإذاعة يردده في منتصف سبعينيات القرن الماضي، لبيت شعري شهير:
إذا هبّت رياحك فاغتنمها فلكل خافقة سكونُ
هناك سياق ملائم للحوار بين البلدين، ولو في إطار غير رسمي، ولا ينبغي أن تُهدر الفرصة.