وساطة خلف الستار.. كيف تُفاوض الاستخبارات الجماعات المسلحة؟ |



روكب اليوم

بعيدا عن الأضواء، وخلف ستار أجهزة الأمن، نسج اللواء عباس إبراهيم مدير عام الأمن اللبناني السابق مسيرة استثنائية، متنقلا بين ساحات صراع ومكاتب قرار، ممارسا دور “وسيط غير تقليدي” في ملفات حساسية ومعقدة.

لم يكن دبلوماسيا على ورق، بل رجل استخبارات يحمل عقيدة الحوار، ويؤمن بأن الكلمة قد تسبق الرصاصة في إطفاء نيران الحروب، وقد حلّ ضيفا على أولى حلقات “بودكاست وسيط” (يمكن متابعتها كاملة عبر هذا الرابط)، ليكشف جانبا من تلك الرحلة المثقلة بالأسرار.

نشأ عباس إبراهيم في كنف عائلة ميسورة، وكان بوسعه أن يسلك دربا أكثر راحة، لكن اجتياح إسرائيل لبيروت عام 1982، واستشهاد شقيقه في حرب عبثية، شكّلا حافزا دفعه لاختيار الطريق الأصعب، وهو الالتحاق بالمؤسسة العسكرية، بحثا عن وطن موحد في زمن الانقسام.

ويروي اللواء إبراهيم كيف تلقى رفضا قاطعا من عائلته للالتحاق بالجيش، إذ رفضت والدته حتى كيّ بدلته العسكرية، لكن قناعته بأن الجيش هو “بوتقة الوحدة” جعلته يصرّ على خوض التجربة رغم كل شيء. تخرج عام 1982 في عام وصفه بـ”المشؤوم” بسبب الاجتياح الإسرائيلي الذي وصل إلى عتبات مدرسته الحربية.

أولى مهامه الأمنية كانت جنوبي لبنان، حيث كان يمر يوميا عبر حواجز الاحتلال من بيروت إلى صيدا، وهو ما رسّخ في وجدانه شعورا بالقهر، وزاد من عدائه للاحتلال، وفي تلك المرحلة، بدأ تكوين وعيه العميق حول فكرة السيادة، ومفهوم الأمن كمسؤولية أخلاقية قبل أن تكون مهنية.

وتدرج إبراهيم في المناصب حتى ترأس جهاز الأمن العام اللبناني، وعمل سابقا في جهاز المخابرات العسكرية، كما تولى مهام تأمين شخصيات دولية من بينها الأخضر الإبراهيمي، الذي تعلّم منه الصبر و”الوساطة بلا نوم”، ويروي حادثة تحذير الإبراهيمي للرئيس رينيه معوض من محاولة اغتيال لم يُبال بها، قبل أن يُغتال بعد ساعات.

أدوار حساسة

تجربته الأمنية، التي امتدت لعقود، لم تكن محصورة بالتحليل أو الرقابة، بل تعدّت ذلك إلى أدوار تفاوضية حساسة، حيث يصف إبراهيم أن نجاح الوسيط يبدأ من المعلومة، وأن فشل الأجهزة الاستخباراتية في استشراف أحداث كبرى -كعملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023- يعود غالبا إلى التقدير السياسي الخاطئ، لا غياب المعلومات.

ويرى اللواء عباس أن مفاجأة “طوفان الأقصى” كانت درسا في السرية والانضباط العملياتي، ويشير إلى أن الفشل الإسرائيلي لم يكن استخباراتيا بالكامل، بل سياسيا في جوهره، حيث تمّ تجاهل التحذيرات، وأكد أن عنصر المفاجأة كان محسوبا بإحكام، وأن تدريب المقاتلين على سيناريوهات شبيهة سهّل عملية التنفيذ الصاعقة.

أما في جنوب لبنان، فيعتبر أن إسرائيل طوّرت أدواتها بعد حرب 2006 نحو الاختراقات الأمنية والتقنيات الرقمية، متجنبة المواجهات البرية التي أثبتت فشلها، ويعتقد أن اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وإن لم يفاجئه شخصيا، شكّل صدمة للرأي العام، كاشفا حجم الاختراق الإسرائيلي.

ويؤكد أن ما جرى من سلسلة اغتيالات وخرق للسيادة اللبنانية لم يكن محض مصادفة، بل ثمرة اختراق أمني وتقني معقّد، تطلّب سنوات من التحضير، مدعوما بتقنيات الذكاء الاصطناعي ودعم دولي غير مسبوق، لكنه يرى أيضا أن البيئة المقاومة قادرة على التجدد وابتكار أساليب أكثر شراسة، تماما كما حدث بعد نكسة 1967.

ينتقل اللواء إبراهيم للحديث عن دمشق، فيسرد رؤيته لانهيار نظام بشار الأسد بشكل مفاجئ، مؤكدا أن ما جرى كان نتيجة “عمل استخباري سياسي” غيّر موازين القوى بشكل غير متوقع، مرجّحا وجود تعليمات داخلية بعدم القتال، وهو ما عكسه التراجع السريع للقوات الحكومية.

من أين بدأت؟

أما علاقته بالوساطة، فقد بدأت من جنوب لبنان، حين اختار معالجة النزاعات القروية بالحوار لا بالسلاح. كانت تلك أولى بوادر تحوله إلى وسيط، سرعان ما ترسخت عندما اقتحم مخيم عين الحلوة عام 2005، مخالفا الأوامر العسكرية، ودخل المخيم للقاء قادة الفصائل الإسلامية المطلوبين للدولة اللبنانية.

يحكي إبراهيم كيف دخل بسيارته الخاصة دون سلاح، وطلب من القيادي الفلسطيني منير المقدح أن يصطحبه في جولة داخل المخيم، وهناك، تواصل مع “عصبة الأنصار” وغيرها من الفصائل، ونجح في خلق بيئة تفاهم أفضت لاحقا إلى تحييد المخيم عن حرب نهر البارد، وتسهيل انتشار الجيش في محيطه.

ويعتبر أن أصل الإرهاب لا يكمن في الأيديولوجيا وحدها، بل في الفقر واللاعدالة والتهميش. ويقول: “لو دخلت إلى مخيم عين الحلوة وعشت 15 يوما، ستفكر بالتمرد”، معتبرا أن القمع الأمني ليس حلا، بل عاملا لتفريخ الغضب. ويصر على أن “الأمن الحقيقي ليس فوق الناس، بل من أجلهم”.

وبنظره، لا خطّ أحمر في التفاوض إلا العدو الإسرائيلي، فالمبدأ الأساسي هو الحوار مع كل طرف يحمل سلاحا بوجه الدولة. ويستذكر مفاوضاته غير المباشرة مع جبهة النصرة وتنظيم الدولة، والتي قادها بصبر وتكتم، مستعيدا جنودا لبنانيين رغم فداحة الثمن، ويؤكد أن النجاح مرهون بالمصداقية والشفافية.

أبرز الوساطات

من أبرز وساطاته كانت تحرير راهبات معلولا، حيث تمّت مبادلتهم بـ34 امرأة معتقلة في السجون السورية. اللافت أن جميع النسوة المفرج عنهن رفضن التوجه إلى الخارج، وأصررن على العودة إلى دمشق، في مشهد هزّ مشاعر الوسطاء أنفسهم.

ويكشف اللواء أن حزب الله، ممثلا بالسيد حسن نصر الله، كان يضطلع بأدوار حاسمة في تذليل العقبات خلال تلك الوساطات، خصوصا حين تتعقد المفاوضات مع النظام السوري. ويمدح دعم قطر المستمر الذي وصفه بـ”الحاسم” في كثير من عمليات التبادل.

كما قاد وساطة سرية بين النظام السوري والإدارة الأميركية في ملف الصحفي الأميركي أوستن تايس. إذ التقاه مبعوثو ترامب، وأقلّوه بطائرة خاصة إلى البيت الأبيض، حيث تم التفاهم على بنود “تصب في مصلحة الشعب السوري”. لكنّ تصريحا انتخابيا من ترامب ضد الأسد فجّر العملية وأوقفها بالكامل.

ورغم انخراطه في وساطات دولية وإقليمية، يؤكد اللواء إبراهيم أن التفاوض داخل لبنان يبقى الأصعب، لأن السياسة تطغى على المصلحة الوطنية. ويعبّر عن تفاؤله بالمشهد اللبناني ما بعد الحرب، معتبرا أن انتخاب رئيس جديد يتمتع بخلفية أمنية يشكّل فرصة حقيقية لبناء دولة مستقرة.

ويختم بالقول إن كل الجهود الأمنية، مهما بلغت، لا يمكنها صناعة الاستقرار من دون عدالة وكرامة. وفي عالم يتزايد فيه منسوب العنف، يرى أن الوساطة ليست مهمة ناعمة بل صراع في الظل، يقوده “رجل أمن يحترف الحوار أكثر مما يحترف القبضة”.

|

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com
Enable Notifications OK No thanks