روكب اليوم
وكان ترامب، الرئيس الـ47 للولايات المتحدة، قد وعد في حملته الانتخابية بتحقيق “السلام خلال أيام” واضعا إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، وتسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، في صدارة أولوياته.
فمن الشرق الأوسط إلى أوروبا الشرقية، تشابكت الآمال بعقبات الواقع، لتسلط الضوء على إستراتيجية أثارت جدلا واسعا بين مؤيديه وخصومه، فهل كان ترامب قادرا على تحقيق اختراقات حقيقية؟ أم كانت وعوده الطموحة مجرد أحلام اصطدمت بصلابة السياسة الدولية؟
بداية مبكرة لاحتواء حرب غزة
لم ينتظر ترامب دخوله الرسمي إلى البيت الأبيض للشروع في تنفيذ وعوده بشأن إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل تحدثت تقارير إعلامية في يوليو/تموز 2024 عن أن الرئيس الأميركي عقد اجتماعا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في منتجع مارالاغو، وأبلغه بعزمه على إنهاء حرب غزة قبل تسلّمه الرسمي للسلطة.
وفي أواخر العام ذاته، عيّن ترامب مطور العقارات ستيف ويتكوف مبعوثا خاصا إلى الشرق الأوسط، رغم افتقاره إلى الخبرة الدبلوماسية، وكلفه بالتوسط لوقف إطلاق النار والتعامل مع ملف الرهائن.
اعتمدت إستراتيجية ترامب وقتئذ على ممارسة ضغوط شديدة على الطرفين لإنهاء القتال، مقرونة بتهديد بأن “جحيما” سينفجر في المنطقة إذا لم يتم الالتزام.
وبالفعل، أسفرت محادثات ماراثونية عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس وتبادل الأسرى، قبل يوم واحد من تنصيبه، ناسبا الفضل في هذا الاختراق إلى إستراتيجيته مبعوثه ويتكوف وجهوده.
وُصف الاتفاق آنذاك بأنه اختراق محدود لكنه مهم، ونص على وقف الأعمال العدائية وتبادل دفعات من الأسرى بين الجانبين.
وعلى الرغم من أن الهدنة ساعدت مؤقتا في تهدئة الوضع الميداني، فإن التزام الاحتلال بها ظل هشا، وسط مؤشرات متزايدة على أن استمرار التوترات قد يهدد بانهيارها في أي لحظة.
“ريفييرا الشرق الأوسط” تقوّض السلام
غير أن طموحات ترامب كرجل أعمال بدت كأنها تهدد بانهيار الإنجازات الدبلوماسية المبكرة. ففي فبراير/شباط الماضي، وأثناء مؤتمر صحفي مشترك مع نتنياهو في البيت الأبيض، طرح الرئيس الأميركي خطته المثيرة للجدل المسماة “ريفييرا الشرق الأوسط”، والتي نصّت على تهجير الفلسطينيين من غزة وأن تتولى الولايات المتحدة مؤقتا إدارة قطاع غزة بهدف إعادة تطويره.
قوبلت هذه الخطة برفض واسع من المجتمع الدولي، إذ اعتُبرت انتهاكا صارخا للقانون الدولي ولحقوق الفلسطينيين.
وبينما وصفت منظمات حقوقية المقترح بأنه “تطهير عرقي”، رأى نتنياهو أن الفكرة “مبتكرة وقد تغير مجرى التاريخ”.
وفسر مراقبون الخطة بأنها منحت إسرائيل “الضوء الأخضر” لاحتلال القطاع وإقامة مستوطنات جديدة فيه مما يؤدي إلى تجدد القتال.
على الصعيد الداخلي، أظهر استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث في أبريل/نيسان 2025 انقساما في الرأي العام الأميركي حيال أداء ترامب في التعامل مع الملف الفلسطيني الإسرائيلي، فقد اعتبر 31% من الأميركيين أن ترامب ينحاز بشكل مفرط لإسرائيل، بينما رأى 29% أنه يوازن بين الطرفين، وأعرب 37% عن عدم قدرتهم على تحديد موقف واضح.
إعلان
أما بشأن خطة “الاستحواذ على غزة”، فقد أظهر الاستطلاع أن 62% من الأميركيين يعارضون الفكرة، مقابل 15% فقط يؤيدونها.
وكشف استطلاع منفصل أجرته “غالوب” في مارس/آذار الماضي أن نسبة الرضا عن تعامل ترامب مع ملف غزة بلغت 41% فقط، مقابل 53% من الأميركيين أعربوا عن عدم رضاهم.
انهيار متوقع
ما هي إلا أسابيع قليلة حتى انهار وقف إطلاق النار الهش في 18 مارس/آذار 2025، إثر غارات إسرائيلية مكثفة على غزة، رافقتها تهديدات من نتنياهو باستخدام “قوة عسكرية متزايدة” ضد حماس حتى الإفراج الكامل عن الأسرى.
تبعها منع المساعدات الإنسانية من دخول القطاع وسط تحذيرات دولية متزايدة من اقتراب مجاعة تهدد سكان القطاع.
ويرى مراقبون أن نتنياهو لا يجرؤ على خرق الهدنة من دون موافقة من واشنطن، في ظل الدعم السياسي والعسكري السخي الذي تمنحه إدارة ترامب لإسرائيل.
ووسط تفاقم الأزمة واستمرار الحصار الإسرائيلي منذ شهرين، صرّح ترامب مؤخرا بأنه ضغط على نتنياهو للسماح بإدخال مزيد من الغذاء والدواء إلى غزة، مشيرا إلى أن “الناس هناك يعانون” وأن على إسرائيل “أن تكون لطيفة” مع سكان غزة.
لكن على الرغم من إحراز ترامب تقدما محدودا في إبرام هدنة هشة قبل التنصيب، فإن الانهيار السريع لاتفاق وقف النار أعاد الأمور إلى المربع الأول.
وبينت تحليلات سياسية أن أحد أسباب فشل ترامب في تسوية النزاع، بالإضافة إلى طموحه التجاري في غزة وانحيازه للجانب الإسرائيلي، هو تحويل اهتمامه إلى النزاع الروسي الأوكراني، ليظل وعده بإحلال سلام سريع في المنطقة مهمة صعبة وطموحا لم يستطع الصمود أمام تعقيدات الصراع.
خطة أحادية للسلام في أوكرانيا
لم تختلف مقاربة الرئيس الأميركي في التعامل مع الحرب الروسية الأوكرانية كثيرًا عن تعامله مع الحرب في غزة؛ إذ بدا واضحا ميله كذلك إلى أحد أطراف الصراع.
فبعد أيام معدودة من أدائه اليمين الدستورية، أطلق ترامب تهديدات بفرض عقوبات إضافية على موسكو إن لم يتم التوصل إلى “صفقة” تنهي الحرب، غير أن لهجته لم تخلُ من الود تجاه الكرملين، مؤكدًا أن علاقته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين كانت “جيدة دائما”، وأنه لا يهدف إلى “إيذاء روسيا”.
إعلان
في المقابل، أبدى بوتين استعداده للتفاوض، ففتح الباب أمام مقاربة أميركية أحادية. وأجرى الرئيسان مكالمة هاتفية في 12 فبراير/شباط، أُعلن بعدها الاتفاق على بدء مفاوضات فورية.
جاء ذلك بالتزامن مع تصريحات وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث خلال اجتماع للناتو، أكد فيها أن انضمام أوكرانيا إلى الحلف هدف “غير واقعي”، في إشارة ضمنية إلى احتمال تقديم تنازلات كجزء من تسوية النزاع.
لكن تحركات ترامب المنفردة أثارت انتقادات مبكرة، وعبرت كييف عن رفضها التام لأي مفاوضات لا تكون طرفا مباشرا فيها، مؤكدة أن “لا شيء يمكن مناقشته بخصوص أوكرانيا من دون أوكرانيا”.
وانضمت 6 دول أوروبية كبرى إلى هذا الموقف عبر بيان مشترك أكد دعم استقلال أوكرانيا وحذر من عواقب تجاوز الحقوق الأساسية للأوكرانيين.
محطات متوترة
رغم التحذيرات، مضت إدارة ترامب قدما في مفاوضاتها مع موسكو، وشهدت العاصمة السعودية الرياض في 18 فبراير/شباط اجتماعا رفيع المستوى بين وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ونظيره الروسي سيرغي لافروف، وقد عقد الاجتماع -الذي خُصص لبحث سبل وقف إطلاق النار- بغياب ممثلي أوكرانيا والاتحاد الأوروبي.
وفي تعليقه على استبعاد كييف، صرّح ترامب بأن الأوكرانيين “كان ينبغي أن ينضموا إلى المحادثات قبل ذلك بكثير”، مضيفًا أنه “يمتلك القوة لإنهاء هذه الحرب”.
ورغم أن اجتماع الرياض طرح أفكارا أولية لتحقيق السلام، فإن معظم التحليلات رأت أنه لم يحقق تقدما دبلوماسيا حقيقيا، في ظل تهميش أوكرانيا وإصرار موسكو على شروط مسبقة، تتضمن تنازلات عن مزيد من الأراضي من جانب كييف، وعدم انضمامها إلى الناتو، ونزع سلاحها.
وعقب اجتماع الرياض، بدأت العلاقة بين ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالتدهور، خصوصا بعد تشكيك ترامب العلني في شرعية زيلينسكي ومطالبته بإجراء انتخابات جديدة.
إعلان
وبلغت التوترات ذروتها في 28 فبراير/شباط خلال المشادّة الشهيرة التي حدثت بين الرئيسين في البيت الأبيض، لتعلن واشنطن بعد مغادرة زيلينسكي تعليق المساعدات العسكرية والتعاون الاستخباراتي مع كييف، فزاد ذلك من عزلة أوكرانيا ودفع المراقبين إلى التشكيك بجدية واشنطن في دعم حلفائها الأوروبيين وفي مقدرة ترامب كمفاوض على إنهاء النزاع.
الزيارة التي كان يُعوّل عليها المجتمع الدولي لدفع مسار السلام تحولت إلى فرصة ضائعة، إذ ركّز ترامب خلالها على دفع أوكرانيا إلى توقيع صفقة معادن، أكثر من التركيز على وضع طرفي القتال حول طاولة تفاوض.
وفي المقابل، خرج زيلينسكي من الزيارة مقتنعا بأن بلاده تُجرد من مقوماتها الدفاعية الأساسية بينما موسكو لا تواجه أي ضغوط حقيقية. ومع ذلك، أبدى أسفه على ما حدث في البيت الأبيض وأكد استعداد أوكرانيا للعودة إلى طاولة المفاوضات “في أقرب وقت ممكن”.
تعنت روسي
في 11 مارس/آذار، نجحت جهود ترامب في جمع ممثلين عن روسيا وأوكرانيا في مدينة جدة حيث أُعلن عن اتفاق مبدئي على وقف قصف منشآت الطاقة لمدة 30 يوما، وافقت عليه أوكرانيا سريعا، بينما تلكأ بوتين مبررا موقفه بتحقيق مكاسب عسكرية متزايدة.
ورغم محاولات ترامب لاحقا لدفع بوتين نحو اتفاق أوسع، فإن الكرملين فاجأ الجميع بإعلان هدنة أحادية الجانب لمدة 30 ساعة بمناسبة عيد الفصح، من دون تنسيق مع الجانب الأميركي، واعتُبر ذلك إحراجا دبلوماسيا لواشنطن.
ومع توالي التحديات، بدا أن ترامب أدرك أن السياسة الخارجية تحفل بملفات أخرى لا تقل أهمية، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأميركية ماركو روبيو الذي صرّح بأن الرئيس “كرّس كثيرا من الوقت والطاقة لهذا الملف، غير أن هناك قضايا أخرى كثيرة تجري في العالم الآن، وتحتاج إلى تركيز الإدارة الأميركية”.
وقد نسب محللون فشل جهود ترامب إلى جملة أسباب منها عدم ممارسة ضغوط فعلية على موسكو، وميل إدارته إلى قبول مقترحات روسية تقوم على الاعتراف بشبه جزيرة القرم كجزء من الأراضي الروسية ولا تقدم ضمانات أمنية حقيقية لكييف التي تمسكت بموقفها الداعي إلى ضمانات دفاعية صلبة قبل الخوض في أي مفاوضات.
وذلك بالإضافة إلى اعتماده على فريق تفاوضي بخبرة عقارية وليست دبلوماسية، أضعف قدرته على المناورة مع مفاوضين محنكين مثل الروس.
وبحسب استطلاع أجراه مؤخرا مركز بيو للأبحاث، يعتقد 43% من الأميركيين أن ترامب يميل بشكل مفرط إلى مصلحة روسيا، في حين يرى نحو 3 من كل 10 أنه يحافظ على توازن مناسب بين الطرفين، بينما قال 3% فقط إنه ينحاز إلى أوكرانيا بشكل مفرط، و22% منهم لم يقدموا موقفا واضحا.
رغم العثرات المتكررة، لا يزال الرئيس الأميركي دونالد ترامب يبدي تفاؤله بإمكانية التوصل إلى اتفاق بين روسيا وأوكرانيا، وكشف مؤخرا أنه تم الاتفاق على معظم النقاط الرئيسية في اتفاق إنهاء الحرب.