5 أسئلة لفهم الممرات الاقتصادية في شرق أفريقيا |


روكب اليوم

تزايد في السنوات الأخيرة الدور الذي تلعبه مجموعة من الممرات الاقتصادية العابرة للحدود في شرق أفريقيا، حيث تحولت إلى شرايين حيوية لاقتصاديات المنطقة وعاملا رئيسيا يسهم في تطوير آليات التكامل الاقتصادي بين دولها.

ومن خلال الأسئلة الخمسة الواردة في هذا التقرير نستكشف ماهية هذه الممرات وكيف تحولت إلى روافع تنموية، مع النظر في وجه العملة الآخر المتمثل في ما رافقها من تداعيات ضارة بالبيئة والإنسان، وكيف حملت في ذاتها مفارقة لافتة حيث تحولت في الآن نفسه إلى ساحة للتكامل والتنافس بين دول المنطقة.

ماذا نعني بالممرات الاقتصادية؟

يسمى الممر الاقتصادي “ممر التنمية” أيضا، وهي تسمية تلقي الضوء على طبيعة هذه المشاريع التي ترتقي بطرق النقل العابرة للحدود من كونها وسيلة لنقل البضائع والخدمات إلى اعتبارها أداة لتحفيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المناطق المحيطة بهذه الطرق.

وتوضح ورقة بحثية مطولة نشرها بنك التنمية الأفريقي عام 2013 أن هذه الرؤية تتحقق من خلال إنشاء مرافق صناعية واجتماعية بالتزامن مع البنية التحتية للنقل، ما يؤدي إلى تطوير المناطق الريفية والحدودية، وزيادة دخل الفئات ذات الدخل المنخفض، وخلق فرص العمل.

الممر الشمالي يربط ميناء مومباسا الكيني المطل على المحيط الهندي بعدد من الدول الحبيسة في شرق ووسط أفريقيا (الفرنسية)

ما أبرز الممرات الاقتصادية في شرق أفريقيا؟

وفقا للمنشور على الموقع الإلكتروني للمجموعة الاقتصادية لشرق أفريقيا “إي إيه سي” (EAC)، فقد حددت 10 ممرات رئيسية بطول إجمالي يبلغ حوالي 15 ألف كيلومتر، تُشكل شبكة الطرق الإقليمية لشرق أفريقيا.

وتتميز هذه الممرات بأن لكل واحد منها خصائصه وأهدافه، ويأتي في طليعة هذه الممرات:

  • الممر الشمالي

من أكثر طرق النقل حيوية في شرق أفريقيا، يربط ميناء مومباسا الكيني المطل على المحيط الهندي بعدد من الدول الحبيسة في شرق ووسط أفريقيا وهي أوغندا ورواندا وجنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي بطول يقارب 1700 كيلومتر، وهو جزء من طريق ترانس أفريكا السريع (مومباسا-لاغوس).

والممر الشمالي طريق تجاري متعدد الوسائط تتضمن شبكته طرقا برية وسككا حديدية وخطوط أنابيب وممرات مائية داخلية وتمر عبره من ألفي إلى 3 آلاف شاحنة يوميا.

خريطة الممر الاقتصادي الشمالي في أفريقيا (الجزيرة)

يمتد من ميناء دار السلام التنزاني إلى مدينة كابيري مبوشي في زامبيا ويتألف من سكة حديد أحادية بطول يبلغ قرابة 1860 كيلومترا، تم بناؤه في سبعينيات القرن الماضي وسمي بـ”سكة الحرية” لأنه أنشئ لتمكين زامبيا غير الساحلية من التصدير عبر تنزانيا وتجنب الاعتماد على موانئ روديسيا وجنوب أفريقيا اللتين كانتا محكومتين من قبل الأقلية البيضاء في ذلك الحين.

وبلغ الممر ذروة نشاطه في الثمانينيات ثم بدأ في التراجع بشكل كبير منذ التسعينيات بعد التغيرات السياسية في جنوب أفريقيا وناميبيا؛ ما فتح منافذ جديدة لزامبيا، وفي السنوات الأخيرة وقعت الحكومتان الزامبية والصينية اتفاقيات لإعادة تنشيط الخط بتكلفة تبلغ مليار دولار.

قطار عالي السعة يستخدمه السياح والمسافرون المحليون للسفر بين كابيري مبوشي ودار السلام (شترستوك)
  • الممر المركزي

يمتد هذا الممر من ميناء دار السلام التنزاني على شاطئ المحيط الهندي إلى مجموعة من دول شرق ووسط أفريقيا غير الساحلية كأوغندا ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي، ويبلغ طوله نحو 1300 كيلومتر، وتتضمن شبكته مزيجا من وسائل نقل مختلفة بما فيها النقل البحري عبر بحيرة تنجانيقا وطرقا برية وسككا حديدية.

يعد هذا الممر أحد المشاريع الكينية الطموحة وطويلة الأجل ويُخطط له أن يربط ميناء لامو الكيني بكل من إثيوبيا وجنوب السودان، وقد تم إطلاقه عام 2011 بكلفة تقديرية بلغت 25 مليار دولار بما يتضمن تطوير ميناء لامو ليصبح أحد أكبر مواني القارة إلى جانب بناء 2500 كيلومتر من الطرق السريعة و3 آلاف كيلومتر من السكك الحديدية بجانب 3 مطارات دولية.

وعلى الرغم من النجاح في إنجاز الأرصفة الأربعة الأولى للميناء فإن المشروع يواجه سلسلة من التحديات التي أبطأت بشكل كبير، وأعاقت في بعض الأحيان، العديد من مشاريع التطوير المخطط لها.

الممر الجيبوتي الإثيوبي

من أكثر ممرات النقل حيوية في شرق أفريقيا يربط الأسواق الإثيوبية بالموانئ الجيبوتية، ويتألف من سكة قطار كهربائية تربط عاصمتي البلدين بطول يقارب 750 كيلومترا، وطريق بري يمتد من جيبوتي إلى الحدود الإثيوبية بطول 218 كيلومترا وينقل عبر الشاحنات 85% من البضائع الإثيوبية في حين يتكفل القطار بـ15% المتبقية.

منظر جوي لخط سكة حديد أديس أبابا-جيبوتي عام 2016 بعد 4 سنوات من البناء (شترستوك)

ما أهمية تلك الممرات؟

تحمل الممرات الاقتصادية أهمية متعددة الطبقات وهذا ما دفع رئيس مجموعة البنك الأفريقي للتنمية، الدكتور أكينوومي أديسينا، إلى توضيح أهداف البنك من دعم تلك المشاريع قائلا: “من خلال الممرات الإقليمية فقط يمكننا نقل البضائع والخدمات بسهولة عبر القارة، وخفض تكاليف النقل، وتعزيز التكامل وتحقيق التنمية الاقتصادية المؤثرة”.

وفي هذا السياق تسهم أنظمة النقل الفعالة في خفض تكاليف ممارسة الأعمال التجارية، وهذا يعزز التجارة الإقليمية ويجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، ويُقدّر مسؤولو مجموعة شرق أفريقيا أن خفض تكاليف النقل بنسبة 30-40% يُمكن أن يُعزّز بشكل كبير حجم التجارة والناتج المحلي الإجمالي الإقليمي.

وتشير ورقة تحليلية منشورة في “مجلة تمويل التنمية الأفريقية” ربيع هذا العام إلى أن تحديث البنية التحتية للنقل على طول الممر المركزي أدى إلى تقليل التأخير في الموانئ والمعابر الحدودية، مما ساهم في خفض إجمالي تكاليف الخدمات اللوجيستية بنسبة 30%.

وللممرات الإقليمية دور بارز في عملية التكامل الإقليمي ودمج الأسواق بين دول المنطقة، ومن زاوية أخرى توفر هذه المعابر الفرصة لربط الدول الحبيسة بالأسواق الدولية، مما ينعكس إيجابيا على اقتصاداتها ويمكنها من المشاركة في التجارة العالمية.

كما تعد هذه الممرات روافع للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في المناطق التي تعبر بها، وتوضح دراسة صادرة عن البنك الأفريقي للتنمية أن هذه المشاريع تشجع الاستثمارات في مجالات كالصناعات الزراعية والتصنيع، والمشاريع القائمة على الموارد الطبيعية، والصناعات الصغيرة، والتجارة، والسياحة، والتعليم، والمرافق الصحية، وجميعها تقع بالقرب من الممر.

بجانب ما سبق تخلق هذه المشاريع الضخمة فرصا هائلة للتوظيف وعلى سبيل المثال فمن المتوقع أن يوفر ممر لابسيت أكثر من مليون ونصف الميلون فرصة عمل بشكل مباشر أو غير مباشر، مما يعود بالنفع على المجتمعات المحلية والشركات والحكومات.

أعمال بناء ميناء بالقرب من منتجع لامو ويطلق على هذا المشروع اسم ممر لابسيت (الفرنسية)

ما التحديات التي تواجه هذه المشاريع؟

رغم أهمية تطوير قطاع البنى التحتية، فإن القارة الأفريقية تعاني من ضعف القدرة على تغطية التكلفة المالية لهذه المشاريع العملاقة، ووفقا لتقديرات بنك التنمية الأفريقي فإن هناك حاجة إلى ما بين 130 و170 مليار دولار لتطوير البنية التحتية كل عام في القارة، مما يترك فجوة تمويلية كبيرة تتراوح بين 68 و108 مليارات دولار.

ولمواجهة هذا الواقع تلجأ البلدان الأفريقية إلى مجموعة من الأدوات، من أبرزها الاستقراض من الخارج ولا سيما من الصين، والذي تنتشر نماذجه العملية في طول القارة وعرضها.

وعلى سبيل المثال، فقد تم إنشاء خط سكة حديد جنوب كينيا “إس جي آر” (SGR) عبر قرض بقيمة 3.6 مليارات دولار أميركي من بنك التصدير والاستيراد الصيني، بينما اعتمد خط سكة حديد أديس أبابا-جيبوتي الإثيوبي على قرض بلغ حجمه 2.5 مليار دولار من نفس المؤسسة.

ولكن هذه الإستراتيجية تحمل مخاطر السقوط فيما يسمى “بفخ الديون” وهو وصف تطلقه الأدبيات الغربية على القروض الصينية، وتشير مقالة منشورة على جيبا أفريكا” إلى أن القروض ذات أسعار الفائدة المرتفعة وآجال السداد القصيرة خلقت متطلبات خدمة ديون غير مستدامة تتجاوز بكثير إيرادات المشروع، عازية محدودية المرونة في سدادها إلى حمل هذه القروض ضمانات سيادية، كما أنها تتطلب أحيانا ضمان الأصول الوطنية، ما يحمل مخاطر عميقة على السيادة الاقتصادية للدولة المقترضة.

مقاولون من شركة تشيناي كوميونيكيشن كونستركشن بجوار قطار السكك الحديدية القياسي في نيروبي (الفرنسية)

وجه آخر من المخاطر تنطوي عليه هذه المشاريع يتمثل في التداعيات السلبية على المجتمعات المحلية والبيئة في المناطق المحيطة بهذه الممرات، وتشير دراسة أصدرها “بنك التنمية الأفريقي” إلى أن تنفيذ هذه المشاريع يقود إلى استحواذ الحكومة على مساحات واسعة من الأراضي الخاصة ما يؤدي إلى نزوح السكان وفقدان ملكيتهم لأراضيهم وتدفق الأجانب على طول ممرات التنمية وهو مزيج يخلق العنف والصراع بين المجتمعات المحلية كما حدث في مناطق كإيسولو وتوركانا في كينيا.

“أحد أكثر طرق النقل تلوثا في أفريقيا”؛ هكذا تصف مقالة نشرها برنامج الأمم المتحدة للبيئة الممر الشمالي، حيث تسببت الانبعاثات الصادرة عن ألفين إلى 3 آلاف شاحنة تمر يوميا عبر هذا الطريق في تحوله إلى “بؤرة لتلوث الهواء” يعاني بسببها السائقون والأشخاص الذين يعيشون على طول الممر من أمراض الجهاز التنفسي.

كما تمثل التحديات المرتبطة بالمخاطر التشغيلية عائقا آخر أمام الاستفادة الكاملة من هذه الممرات الإقليمية من قبيل ضعف التنسيق الإداري عبر الحدود وزيادة التكاليف المرتبطة بالحواجز غير الجمركية وعمليات التفتيش الطويلة والمرهقة وفساد الجهاز الإداري.

ولا تبدو المخاطر الأمنية بعيدة عن التأثير على هذه الممرات الإستراتيجية، وفي مثال واقعي فقد شكل انعدام الأمن في جنوب السودان أحد العوامل المؤثرة في تأخير تسليم البضائع عبر الممر الشمالي، في حين ألقت هجمات حركة الشباب بظلالها السلبية على آفاق ممر لابسيت.

ميناء مومباسا الكيني أكثر موانئ شرق أفريقيا ازدحاما (غيتي)

ماذا عن المنافسة بين هذه الممرات؟

تصف ورقة تحليلية صادرة عن شركة الشحن العالمية العملاقة “ميرسك” المنافسة بين الممرات الاقتصادية في شرق أفريقيا بـ”الصحية”، وبالنظر إلى أن “الجائزة الكبرى” لهذه المشاريع هي الفوز بأسواق الدول الحبيسة في شرق ووسط أفريقيا تحتدم المنافسة بين الممرين الشمالي والمركزي اللذين يخدمان اقتصاديات كل من أوغندا ورواندا والكونغو الديمقراطية وبوروندي.

ويعقد تحليل نشرته منظمة “العلامة التجارية الأفريقية” مقارنة بين الممرين؛ حيث تشير البيانات إلى أنه لطالما كانت للممر الشمالي الأفضلية عبر السنين وذلك نتيجة عدد من العوامل ومنها انطلاقه من ميناء مومباسا الأكثر ازدحاما والأكثر كفاءة، والطرق السريعة المُعبَّدة بشكل أفضل، واحتواؤه على خط سكة حديد قياسي “إس جي آر” (SGR)، بجانب تمتعه بعدد أقل من المعابر الحدودية.

لكن هذه “الهيمنة” تتعرض لتهديد مباشر نتيجة التحديثات المستمرة على بنية الممر المركزي الذي يُعد أكثر أمانا بالنظر إلى قلة هجمات الجماعات المسلحة على الشاحنات عند المقارنة بنظيره الشمالي.

بجانب ما سبق يخضع ميناء دار السلام التنزاني لتوسعات كبيرة تستهدف تأهيله للتعامل مع 24 مليون طن متري من البضائع للسنة المالية 22023-2024، وقد ناول الميناء 21.46 مليون طن متري في الفترة 2022-2023، متجاوزا بذلك هدفه البالغ 19.6 مليون طن متري.

كما أطلقت تنزانيا صيف عام 2024 خطا للسكة الحديدية القياسية لربط دار السلام بالدول المستهدفة مباشرة.

وبلغة الأرقام فقد أظهرت بيانات الصناعة الصادرة عن مجلس شركات الشحن في شرق أفريقيا عام 2023 أنه رغم بقاء كينيا الطريق التجاري الرئيسي في المنطقة، فإن ميناء مومباسا فقد نحو 10% من أعمال النقل لصالح دار السلام في العامين الماضيين.

أما جيوسياسيا، فإن المنافسة بين الممرات الاقتصادية وما يرافقها من ضخ الدول القائمة عليها استثمارات ضخمة في التحديثات المستمرة لبناها التحتية، تكشف أبعادا تتجاوز الكفاءة والسعي نحو تعظيم المردود الاقتصادي إلى ارتباطها المباشر بطموحات امتلاك تلك الدول أدوات التأثير المباشر في سلاسل الإمداد الإقليمية.

ما يعني ذلك مزيدا من النفوذ على اقتصادات الدول الحبيسة التي تعتمد على هذه المنافذ البحرية في الانخراط في الأسواق الدولية، وهو ما يفسر السعي المستميت لدولة كبيرة كإثيوبيا للتخلص من “القيد” الذي يمثله الاعتماد شبه الحصري على موانئ جيبوتي في تجارتها الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com
Exit mobile version
Enable Notifications OK No thanks