روكب اليوم
فالحرب الإسرائيلية على غزة خاصةً بعد تنصل نتنياهو من التزاماته بالاتفاقات المبرمة بينه وبين حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، ووساطة مصر وقطر، نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي وإعادة حملات القصف والقتل والتدمير الممنهج على عموم قطاع غزة ثم أوامره باجتياح أراضي القطاع وسط تساقط آلاف الجرحى، ليؤكد نتنياهو من جديد أن حربه على القطاع إنما هي حرب إبادة جماعية يتشكل منها الكثير من التجاوزات على حقوق الإنسان، نقول إن إعادة العمل العسكري العنيف من جديد حوّلت مساعي التفاوض من جديد لإنهاء هذه الحرب أو التوافق على هدنة طويلة الأمد، إلى مهمة صعبة ومعقدة ومكلفة جدًا، وضعت إسرائيل أمام تحديات تتجاوز المكاسب التي تتوقع إدارة الاحتلال تحقيقها.
النتائج الإستراتيجية التي يمكن حسابها عن استمرار إسرائيل في تجاهل كل المساعي الخاصة بإنهاء هذه الحرب على قطاع غزة والتي أفرزت، وما زالت، ضحايا بشرية من طرف المدنيين الغزيين العُزل تجاوزت الخمسين ألف ضحية مع دمار شامل في الإنشاءات حوّل القطاع إلى منطقة غير صالحة للسكن، لكن، ومع كل ما مارسته الآلة العسكرية الإسرائيلية من قتل وترويع فإن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها ؛ حيث كان ثمن حرب الإبادة هذه هو المزيد من الخسائر السياسية والأخلاقية لإسرائيل داخليًا وخارجيًا، قانونيًا وإنسانيًا، وللمرة الأولى منذ إنشاء الكيان المحتل، وخلال كل حروبها الماضية.
إن قراءة الواقع داخل دولة الاحتلال تفضي إلى تراجع كل مؤشرات المكاسب العسكرية التي ظن نتنياهو أنه حققها فعلًا على الأرض، وفي حسابات الاقتصاد، يرى خبراء اقتصاديون أن ما تواجهه إسرائيل اقتصاديًا من خسائر بسبب تورط الاحتلال في حرب مفتوحة النهايات يمثل تحوّلًا هيكليًا سلبيًا قد يصعب احتواؤُه دون حلول جذرية تبدأ بوقف الحرب، واستعادة الاستقرار، وإعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية، وبناء الثقة.
وسّعت حكومة نتنياهو يومًا بعد آخر الهوّة بينها الجمهور الإسرائيلي المدني والعسكري وبينها، وبدأ كبار السياسيين والقادة العسكريين في تبادل الاتهامات منذ بدايات هذه الحرب حتى مراحلها الحالية التي باتت ملامحها تظهر التمرد الجماعي لضباط وجنود في القوتين الجوية والبحرية، والقوة البرية المهمة في حسم الحروب.
وهي مشكلة حقيقية تتصاعد بسرعة يرافقها تعليقات لخبراء عسكريين في الخدمة وخارجها؛ بأنه إن لم يتم معالجة هذه الظاهرة بسرعة وحكمة، وهو ما لا يقوم به نتنياهو، فإن الروح القتالية وسير العمليات سيفضيان إلى تمردات كبيرة، خصوصًا في جيش الاحتياط الإسرائيلي الذي يبلغ تعداده 465 ألفًا، مقابل 169 ألفًا و500 من الجنود النظاميين في جميع التشكيلات.
الجبهة الداخلية في إسرائيل تأثرت جدًا باستمرار العمليات العسكرية في غزة، وكذلك ترك مصير العشرات من الرهائن الإسرائيليين لدى “حماس” للمجهول، وبسبب قلق أهالي الرهائن الكبير على حياة أبنائهم وتضامن أغلب الشعب الإسرائيلي معهم، ونتيجة لتجاهل نتنياهو وفريقه المتطرف مطالبَ الشعب، فإن حالة الاستياء والخروج بتظاهرات مستمرة منذ أكثر من سنة ونصف السنة، تطورت وما زالت لتضع المزيد من الضغوط على الحكومة والقيادة السياسية الإسرائيلية، بما يعنيه ذلك من انعكاسات على روح القتال في ساحة الحرب، وما يشكله من رسائل للعالم أجمع عن تجاهل الحكومة الإسرائيلية أرواح أبنائهم ومطالباتهم بوقف الحرب، وعودة الرهائن الأحياء منهم والأموات.
وهو ما يعزز من دعوات المعارضة الإسرائيلية للإطاحة برئيس الوزراء نتنياهو لفشله في الأمرين: إنهاء الحرب، وإعادة الرهائن لذويهم.
في الطرف الآخر، حماس، حيث نجحت في أن تكون رقمًا مميزًا في قدرتها على إدارة الصراع والصمود بوجه واحد من أكبر وأحدث وأغنى جيوش العالم عدةً وعتادًا ودعمًا دوليًا، وخلال العمليات التي تم فيها تبادل الأسرى بالرهائن، كانت “القيادة والسيطرة” أبرز ملامحها، حيث ظنّ الجميع أنها ستظهر بشكل ضعيف ومهلهل أو حتى لا تظهر بسبب ما قامت به الآلة العسكرية الإسرائيلية طوال من سنة ونصف السنة، تقريبًا من عمليات إبادة جماعية، وما استخدمته من نظم هجومية أرضية جوية ضد كل شيء في القطاع.
لكن الظهور المهيب لمقاتلي حماس ودقة قيافتهم العسكرية وتسليحهم وتحشيد المدنيين من أهالي غزة لحضور هذه المناسبة، كل ذلك أرسل رسائل متعددة منها لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو مفادها أن الخمسين ألفًا ممن قتلتهم بدمٍ بارد ووحشية من أجل القضاء عليهم ما زالوا بكامل قدراتهم وأن معنوياتهم أكبر بكثير مما كانت عليه قبل تاريخ السابع من أكتوبر/ الأول 2023.
كما أن إسرائيل بكل إمكاناتها التكنولوجية لم تستطع رصد وتحديد طريق نقل الرهائن من أماكن احتجازهم إلى مكان تسليمهم، كل ذلك بالطبع أوقع تأثيره المركز على المعارضة الإسرائيلية، وأهالي المحتجزين لدى حماس.
إنّ أهم ما تتشبث به إدارة نتنياهو من أهداف لهذه الحرب، ليس القضاء على حماس، فهي حركة فكرية عقائدية تحررية لا يمكن مطلقًا أن تُنهى في حرب، كما هو حال كل حركات التحرر في العالم، وليس نزع سلاحهم أيضًا، لأن ما ينزع اليوم يعوّض بعد حين، بل يكمن هدف نتنياهو وفريقه المتطرف بإجبار شعب غزة على إخلاء القطاع “كرهًا” باستخدام القوة المميتة والمدمِرة ومنع أي نقطة ضوء يمكن أن تزيد من قدرة هذا الشعب على المطاولة والصبر، ثم محاولة إيجاد جيوب من داخل القطاع لإظهار رفضها سياسات “حماس” وإرسال رسائل داخلية وخارجية بأن الشعب هناك لا يريد بقاء “حماس” وأنه يريد “الحياة”.
لكن إسرائيل فشلت في الحالين؛ فالشعب ينزح داخل غزة كل يوم مرات ومرات، مؤكدًا في كل خطوة يخطوها أنه متمسك بأرضه، متمسك بغزة، فيما باتت المحاولات الهزيلة لإظهار بعض الغزيين، وهم يحملون شعارات أعدت بطريقة مرتبة تظهر معارضتهم لحماس، مجرد صورة فاقدة لمعناها، سرعان ما اختفت من شاشات الفضائيات.
إن المؤشر الأبرز في مخرجات الحرب على غزة هو أن غزة لن تخسر شعبها، وأن الرهان على تهجيرهم سيفشل، فيما تشير المؤشرات في الطرف الآخر إلى أن حكومة نتنياهو سترضخ للقبول بوقف الحرب على القطاع.
وهو ما سيفتح أمام نتنياهو بوابات طريق مذل وطويل، أوله سقوط حكومته ونهايته العزلة التامة، وخلالهما محاكمات المؤكد منها إدانات بسبب “الفساد” والتي سيضاف لها المزيد من الفضائح المتعلقة بجرائم الحرب الخاصة بخسائر الجيش الإسرائيلي غير المبررة، وأيضًا الإبادة الجماعية التي جعلها عنوانًا دائمًا لإسرائيل في الحكمة الجنائية الدولية، وكل دول العالم.